مقال اخترناه لقرائنا للكاتب العربيّ العمانيّ المميز علي بن مسعود المعشني, نقدمه لقرائنا لعمقه ولثراء مضمونه وتعميماً للفائدة.
إضاءات
علي بن مسعود المعشني
العبث بالتاريخ يُفسِد الجغرافيا، ويورث الذل والهوان لصاحبه، وهذا بالضبط ما قام به ولأجله الخليفة الحالم أردوغان، برعاية وتشجيع من حليفه الشيطان الأكبر أمريكا.
حيث أنصَت هذا الطوراني الحالم والمقامِر لكل كلمة في محاضرة صمويل هنتنجتون بأسطنبول عام 2005، بحضور لفيف من مؤسسي حزب العدالة والتنمية، وعلى رأسهم عبدالله جول وعلي بابا جان (الطفل المعجزة) وأحمد داوود أوغلو مُنظِّر الطورانية الحديثة، وعدد من الطورانيين الحالمين باجترار التاريخ على شاكلة اجترار البقر للطعام حين تجوع، وعلى شاكلة اليهودي حين يُفلس ويُقلب في دفاتر جده؛ حيث أقنعهم هنتنجتون بأنَّ مُستقبل تركيا ليس في الاتحاد الأوروبي، بل في التوجُّه نحو العمق الحيوي لتركيا وقيادة المشهد بمساعدة الحليف الأمريكي لتسويق تركيا الأردوغانية بإسلامها المتفرِّد الذي يجمع ما بين الجامع والحانة، والهلال ونجمة داوود، والدعارة والحجاب، والفطرة والمثلية، والعفة والقمار والمرقص.
أُطلقت ودُشنت تركيا الأردوغانية، وتم تسويقها بدعم سخي من رساميل الغرب، لتنطلق كالخرافة والأفيون في عقول البائسين من العرب والمسلمين، والحالمين بقوة وزعامة، والذين هلَّلوا للزعيم الفاتح المسلم أردوغان، دون أن يتساءلوا للحظة أين الغرب من هذا النموذج الإسلامي الصاروخي المتعاظم، وهم من دمروا وحاربوا كل نموذج وقدوة عربية وإسلامية منذ سايكس بيكو وإلى مطلع الفجر؟!
انطَلَى على الغرقَى الحضاريين من عرب وعجم هذا النبي في زمن اللا نبوة، بنظريات "صفر مشاكل" و"العمق الإستراتيجي"، وقصص ألف ليلة وليلة من بلاط السلطان أردوغان عن العدالة والتنمية ورعاية الفقراء في بلاده، وصولا لتبنِّي قضية فلسطين وكسر الحصار عن غزة بعد مؤتمر دافوس، وعبارة أردوغان الشهيرة للصهيوني شمعون بيريز: "ون مينيت"!!
خَطف العقل الجمعي العربي من قبل تركيا الأردوغانية لم يسمح لأحد بقراءة ما بين السطور ولا الاستماع لمن قرأ ما بين السطور، وحذر من ظاهرة أردوغان ودوره الوظيفي القادم في تدمير الأمة العربية، وكما حذَّر الزعيم معمر القذافي القادة العرب عام 2008م من أردوغان بعد أن جمع ملف استخباري كامل عن الظاهرة الأردوغانية ومهمتها القادمة.
ولم ينتَبه أحد من المخطوفة عقولهم إلى أن الاقتصاد الاردوغاني هو اقتصاد خدمي هش، ينمو بإشاعة وينهار بتغريدة؛ حيث يعتمد بشكل كبير على السياحة كمورد رئيس (أكثر من 45 مليون سائح سنويًّا)، فإذا كان دخل السعودية من 3 ملايين حاج يفوق الـ17 مليار دولار، فلكم أن تتخيلوا سياح تركيا وإنفاقهم السنوي، وراقبوا اليوم تأثير فيروس كورونا على الاقتصاد التركي.
كما لم ينتبه أحد من مخطُوفي العقول أو يتساءل عن سبب وجود عشرات الملايين من الأتراك يبيعون الشاورما على قارعة الشوارع والطرقات في أقطار الخليج وألمانيا وهولندا، في ظل طفرة تركيا الأردوغانية، ولا عن سبب وجود أكثر من 10 ملايين تركي على قوائم العاطلين عن العمل، ولا عن وجود أكثر من 10 ملايين متقاعد تركي تحت مؤشر خط الفقر في تركيا، ولكن يبدو أنه يحقُّ للسلطان أردوغان ما لا يحق لغيره من تبريرات وأعذار من قبل طابور المتأسلمين اليوم. أردوغان استباحَ تُركيا واستغل الدعم والصمت والمباركة الغربية له لتسويق نموذجه؛ حيث باع ثروات تركيا ومرافقها الحيوية من زراعة وصناعة ومطارات وطرقات للمستثمرين لمدد طويلة، واستغل أغلبية حزبه في البرلمان، فمرَّر قوانين وتشريعات قفزت به وبصلاحياته إلى رئيس مطلق الصلاحيات، ونَكل بالمعارضة الهشة أصلًا وزجَّ برموزها في السجون، وأيضا سجن من لم يرق له من عسكر وبرلمانيين وصحفيين وإعلاميين، وأغلق عشرات الصحف والفضائيات المعارضة له، وأغلق آلاف الحسابات على وسائل التواصل الاجتماعي حتى حلت تركيا في المرتبة الثانية عالميًّا في قمع الحريات، وسط صمت عالمي غربي ومتأسلم مطبق!! مع احتفاظ بلاده بـ50 اتفاقية إستراتيجية مع كيان العدو دون تغيير أو مَسَاس بها، وهنا أتذكَّر تعليق أحدهم على ظاهرة أردوغان بالقول: كل سلوك مشين لأردوغان يبرره المتأسلمون بكلمة "سياسة"، بينما كل فعل تقوم به إيران يسمونه "مشروع إيراني"!!
معركة ادلب اليوم أنضجت قناعات الجانبين الأمريكي والأوروبي معًا، بضرورة رحيل أردوغان والإبقاء على الأردوغانية، وفق نظرية فصل الرأس عن الجسد، وهذا القرار يتجلى بتخلي الجميع عن حليفهم أردوغان في إدلب، وجعله يواجه مصيره وحيدًا أمام ضراوة هجوم الجيش العربي السوري وحلفاؤه، والدعم النوعي السخي من الحليف الروسي، والذي أجبر أردوغان على الهرولة نحو موسكو، واستجداء حلٍّ بطعم الهزيمة المشرفة وجوائز الترضية، بعد أن كان يرعد ويزمجر كبائع البطيخ بسوق الخضار، الذي يرفع السعر إلى سقف المستحيل، ثم يقبل بأي سعر في النهاية لتلافِي كساد منتجه. الغرب أعد البديل لأردوغان منذ استنباته لرموز حزب العدالة والتنمية والمؤسسين السابقين له: عبدالله جول وأحمد داؤود أوغلو وعلي بابا جان؛ فهؤلاء سيتكفلون بمواصلة الظاهرة الأردوغانية كونهم المؤسسين لها، مع اختلافهم عن أردوغان في عقلانيتهم وسلوكهم وألفاظهم الأقرب لرجال الدولة، فهم مختلفون مع أردوغان في الآليات فقط، أما الهدف فواحد؛ وهو: تحقيق الحلم الطوراني، وجعل تركيا مستودعا وخزينا للإسلام السياسي وفق رغبة ومخطط الراعي الأمريكي.
إدلب هُوت بأسهم أردوغان وحزبه الى الحضيض، وفوزه في أي انتخابات قادمة وحيدًا أو متحالفًا بات محل شك كبير، بينما سيقُوم حزب العدالة الجديد والمستنبت بخطوات مضادة لخطوات أردوغان القمعية للمعارضين والمصادِرة للحريات، والتي أفقدته الحاضن الشعبي كاستثمار سياسي. معركة إدلب وخسائره النكراء فيها تطلق رصاصة الرحمة على شخصه وتطوي ملفه إلى الأبد، وربما رفعت عنه الغطاء القانوني لاحقًا للمقاضاة من قبل المتضررين من عهده وسياساته.
الإسلام السياسي برهن بالتجربة أنه وجه من وجوه الرأسمالية البشعة، منذ حركة الباكستاني أبو الأعلى المودودي ودعوته بالحاكمية لله، والتي تسبَّبت في انفصال باكستان عن الهند برعاية وتوجيه من الإنجليز، وصولًا إلى التنظيم الدولي للإخوان، الذين وهبوا أنفسهم طوعًا للمال والسلطة قبل الإسلام والوطن، وقد تجلَّى سعيهم هذا وحقيقتهم حين تحولوا من طهران المقاومة إلى أنقرة المُطبِّعة والحليفة للصهيونية العالمية بُعيد استنبات الغرب لحزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان؛ حيث تولَّى تنظيم الإخوان تلميع خليفتهم وتبرير كل سلوك مشين له تجاه الإسلام والأمة العربية، وشيطنة خصومه ومعاداة العروبة ومشتقاتها وتسفيه المقاومة، والوقوف مع "الربيع العبري" بشراسة لتدمير الدولة الوطنية العربية.
وبالشكر تدوم النعم...،
--------------------
قبل اللقاء: يتبين من الوقائع على الأرض أن أردوغان لا يقرأ التاريخ، بل ولا يقرأ حتى القرآن ويتدبره ويتأمله، رغم تسويقه لنفسه كخليفة لمسلمي هذا الزمان؛ وهم الإخوان ومن لف لفهم، وإلا لكان قد فَهِمَ أمريكا من مدلول الآية الكريمة: "كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ" (الحشر:16).