يغالي معظم العرب بكل شيء. لعلّ شبكات التواصل الاجتماعي، لم تكشف فقط عن عورات كثيرة وبينها مثلا أن ٧٠ بالمئة من استخدام الشبكات في الوطن العربي هو لتبادل الاتهامات والتشاتم، وانما كشفت أيضا عن ضعف وهشاشة المعلومات الدقيقة والموثوقة التي يضخّها العرب عبر الانترنيت. ونكون بذلك ضيّعنا فرصة ذهبية لاحتلال موقع بسيط في هذا البنك المعلوماتي الهائل الذي وفّرته التكنولوجيا الحديثة.
مناسبة هذه المقدّمة، ما نراه اليوم مثلا حول مستقبل العالم بعد وباء كوفيد ١٩ المعروف ب " كورونا فايروس". لاحظوا مثلا كم هو مُذهل هذا اليقين عند البعض بأن النظام الليبرالي الغربي العالمي سينهار لتقوم مكانه الصين وروسيا وغيرهما. لا يقارعه سوى البعض الآخر الذي يؤكد أيضا بيقين أن النظام الغربي الأطلسي هو الثابت وأنه سيعود أقوى وأكثر صلابة. اما الدراسات الدقيقة والمراقبة الحصيفة لتطور الأوضاع ولميزانيات الدول ومقوّماتها، تؤكد ان لا الغرب مقبل على انهيار، ولا من مصلحة الصين وروسيا أصلا انهياره، فالتبادل التجاري والتكنولوجي والمصالح الاقتصادية المشتركة أكبر واهم من الانطواء والانزواء والشوفينيات والقوميات . هذه أوروبا مثلا خصصت ٥٠٠ مليار يوريو دفعة واحدة لإنقاذ اقتصادها... هل هكذا امبراطوريات قابلة فعلا للتفكك والانهيار. ربما تضعف وتتراجع، اما ان تنهار ففي الأمر حجم ضخم من المغالاة.
لاحظوا أيضا أن ثمة من يجزم بلا أدنى شك بأن الفايروس هو نتيجة خطأ بحثي تسرّب من أحد مختبرات الصين، يقابله جزم بلا أدنى شك أيضا بأن في الأمر مؤامرة على الصين من منافستها العالمية أميركا. قد يكون أحد الأمرين صحيحا، ولكن قد لا يكون. دعونا نشكك بغية الوصول الى اليقين، لا ان نصل الى اليقين قبل طرح أي تساؤل علمي حقيقي.
ثم نأتي الى التفصيلات المحلّية، فانت اليوم لو شكرت مثلا حكومة د. حسان دياب اللبنانية، لاتخاذها إجراءات جيدة وسريعة لمواجهة كورونا، وشكرت الشعب اللبناني على التزامه الحجر الصحي، فأنت حتما بنظر البعض منتمٍ الى محور تقوده ايران، ولو انتقدتها فانت حتما في المحور الآخر بقيادة السعودية وأميركا. ما عاد لحرية الرأي مكان في صراع العرب ضد العرب على الشبكات الغربية.
في الاهتزازات العالمية الكبرى من حروب وويلات، ينقسم البشر، بين من يرتفع عنده منسوب الانسانية تضامنا مع أخيه الانسان، وبين من تزداد عنده نسبة الحقد والبغضاء فيستسهل بث السموم عبر شبكات التواصل. للأسف معظم العرب يندرجون في القسم الثاني حاليا.
نحن نحتاج في هذه الفترة العالمية العصيبة، وربما في كل فترة أخرى، الى نقاش يستند الى معلومات ووقائع ومعارف، ذلك ان الاحصائيات العلمية تؤكد أن نسبة الاقتباس عن العرب في الشبكات العالمية يكاد يكون نادرا، الا ما تعلّق منه بالمعلومات عن الحروب والفتن والدمار. بينما اقتباس العرب عن المواقع الأجنبية يكاد يصل الى أكثر من ٩٠ بالمئة.
كنا في عصر وكالات الانباء العالمية المستمر ولكن بوتيرة اقل ( رويترز، وكالة الصحافة الفرنسية، اسوشييتد برس، يونايتد برس.. وغيرها..) نتلقى ٨٠ بالمئة على الأقل من اخبارنا العربية منها، الآن في عصر التكنولوجيا صرنا نتلقى أكثر من ٩٠ بالمئة من اخبارنا من الغرب الأطلسي أيضا. كل الدراسات الموثقة والاحصائيات وغيرها نأخذها من مراكز دراسات بحثية غربية. معظم المحللين الدوليين على شاشاتنا هم من الباحثين الغربيين والشرقيين حين نريد معلومة موثوقة، أما حين نفتح الشاشات للكلام الخالي من أي معلومة، فما أكثر المحللين عندنا.
نحن في صراع حقيقي بين منظومتين اعلاميتين، فمقابل الضخ الغربي، تقول صحيفة الشرق الأوسط السعودية مثلا : " ان بيروت هي المقر الثاني لمحطات الإعلام الإيراني، فهي تضم المركز الأكبر لقناة العالم، وأكثر من 15 محطة فضائية تعمل في الفلك الإيراني، بينها ما هو مباشر وبينها فضائيات او وسائل اعلام مقنّعة، إضافة الى وجوه إعلامية تحمل ألقابًا مثل «باحث استراتيجي» و«خبير سياسي» وغيرها، تشارك في عدد كبير من البرامج التلفزيونية على الشاشات المحلية، وتنطق باسم السياسة الإيرانية، مدفوعة بمال سياسي يُضخ منذ عام 2005 وان حجم الاستثمار، بملايين الدولارات سنويًا"
ما تقوله الصحيفة السعودية، يقابله أيضا مال خليجي لدعاية مضادة لإيران في بيروت وغيرها. نحن هنا لسنا في وارد انتاج أفكار، وانما صراع ديكة زاخر بالاتهامات والتخوين وغيرها.
وقد كتبت الدكتور حياة الحويّك وهي باحثة محترمة في مجال الاعلام، كتابا قيّما بعنوان : " الفضائيات الإخبارية العربية بين عولمتين: جيوبوليتيك وخطاب الفضائيات الإخبارية العربية (صادر عن: منتدى المعارف، بيروت، 2013)، فصّلت فيه كيف عملت وتعمل الفضائيات العربية الكبيرة ومن هي رؤوس الأموال فيها ولمن تبعيتها.
لعلنا في هذه المعمعة الإعلامية التشاتمية والتحاقدية والفتنوية المرافقة لكورونا في الوطن العربي، نتذكر ما قاله زبيغينيو بريزنسكي مستشار الأمن القومي السابق في عهد الرئيس الأميركي جيمي كارتر :
"’بعد عصر المدفعية وبعد عصر التجارة والمال، باتت تقنيات الإتصال وشبكاته تمثل الجيل الثالث من هيمنتنا على العالم.، وأن تهيمن على العالم يعني أن تهيمن على ثلاث: أولاً، الفضاءات والمواقع الجيوستراتيجية، ثانياً، الثروات الطبيعية، وبخاصة موارد الطاقة على امتداد الكرة الأرضية، وثالثاً، الأفكار"
هل ثمة من يقرأ ويعتبر يا سادة في عصر الكورونا؟