قَيْسٌ يَعْرِفُ سِرَّ أَبِيه
حَمَلَتْ بِهِ امْرَأَةٌ وَمَاتَ أَبُوهُ بَعْدَ الْحَمْلِ
فِي شَهْرٍ وَيَوْمْ.
وَضَعَتْهُ يَوْمَ الْهِجْرَةِ الْأُولَى عَلَى الطُّرُقَاتِ
كَانَ الْخَوْفُ قابِلَةً فَنادَى الْهَمُّ: لَا
بُشراكِ.... قَيْسْ
مَزَقَتْ مِنَ الشَّعْرِ الطَّوِيلِ جَدِيلَتَيْنِ
وَقَاسَمَتْهُ الثَّوْبَ
لَوْلَا الْعَيْبُ كَانَتْ قَدْ تَعَرَّتْ
أُمُّ قَيْسْ.
وَتَبَسَّمَتْ لَيْلَى بِرَغْمِ الْمَوْتِ وَالْجُرْحِ
الْمُحَدِّقِ بِالْقُلُوبِ وَبِالدُّرُوبِ وَبِالْعُيونْ
وأَتَتْ وأَهْدَت قَيْسها
عِقْداً مِنَ الزَّيْتُونِ
بَالَغَ فِي الْحِفَاظِ عَلَيْهِ
قِيلَ بِهِ جُنُونْ
وَنَمَا الْوَلِيدُ بِخَيْمَةٍ
فَتَحَ الزَّمَانُ بِهَا نَوافِذَ لِلشِّتَاءِ وَلِلرِّيَاحْ
يُغَازِلَانِ لُيُونَةَ الطِّفْلِ الْبَرِيءِ بِلَهْفَةٍ
وَحَرَارَةٍ وَبِلَا ضَجِيجٍأَوْ مُجُونْ
عُشَّاقُ قَيْسٍ دُونَ إِذْنٍ يَسْهَرُونْ
قَيْسٌ يَئِنُّ وَهُمْ عَلَى أَنَّاتِ قَيْسٍ يَرْقُصُونْ
وَتَوَالَتِ الْأَيَّامُ صَارَ الطِّفْلُ يَسْأَلُ أُمَّهُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ
وَهِيَ تَبْكِي لَا تَسِيلُ لَهَا دُمُوعْ
مَنْ مِثْلُنَا رَبَّاهُ؟!
حَتَّى فِي الْمَآسِي قَدْ نَجُوعْ
إِنَّا نَصُومُ عَنِ الطَّعَامِ عَنِ الْكَلَامِ
لِمَ الصِّيَامُ عَنِ الدُّمُوعْ
تِلْكُمْ مُصِيبَتُنَا سِنَانٌ جَامِحَةٌ
لَكِنَّنَا لَا نَمْلِكُ الدَّمْعَ الَّذِي يُطْفِي مَوَاقِدَ حُزْنِنَا
حَقُّ أَمِينَةَ أَنْ تُغَنِّي أَنْ تُهَلِّلَ كَيْ يَنَامَ صَغِيرُهَا
* * * * *
لَكِنْ أَتَى يَوْمٌ تَكَشَّفَ سِرُّهَا لِوَحِيدِهَا
فِي ذَاتِ يَوْمٍ
كَانَ قَيْسٌ فِي جُمُوعِ الْلَّاعِبِينَ عَلَى الْبَيَادِرِ
فَتَشَاجَرُوا... وَتَحَاجَرُوا فَطَغَى عَلَيْهِمْ
عَيَّرُوهُ بِيُتْمِه وَبِعُدْمِه قَذَفُوهُ فِي لَقَبٍمُفَاجِئْ
أَنْتَ لَاجِيءْ، أَنْتَ لَاجِيءْ
أَنْتَ لَا وَطَنًا وَلَا أَهْلًا لُعِنْتَ
فَأَنْتَ لَا...
وَلِتَوِّهِ عَادَ الصَّغِيرُ لِأُمِّهِ...
أُمَّاهُ هَيَّا أَخْبِرِينِي....
أَيْنَ أَرْضِي؟ أَيْنَ أَهْلِي؟
كَيْفَ سَافَرَ وَالِدِي لِيَعِيشَ
فِي الْبُسْتَانِ فِي الْقَصْرِ الْمُزَيَّنِ
بِاللَّآلِيءِ وَالزُّهُورْ؟
وَيَظَلُّ يَنْعَمُ وَحْدَهُ وَأَنَا وَأَنْتِ نَعِيشُ
ذُلَّ الْفَقْرِ دَوْمًا بَعْدَهُ
هَيَّا لِنَذْهَبَ نَحْوَهُ قَسَمًا سَيَعْرِفُنِي أَبِي
هَيَّا لِنَسْكُنَ قَصْرَهُ
قَسَمًا سَيَعْشَقُنِي أَبِي
لَمْ يَأْتِ قَطُّ فَقُمْ وَنَمْ
أَرْجُوكَ قَيْسٌ قُمْ وَنَمْ
لَمْ يُصْغِ... ثُمَّ ارْتَجَّ
حِينَ نَضَا إِلَى الرَّسْمِ الْمُعَلَّقِ
فِي الْعَمُودِ، وَصَاحَ:
بِئْسَ إِذَنْ أَبِي
- لَطَمَتْهُ اخْرَسْ
صَاحَ هَيَّا أَخْبِرِينِي
عَيَّرُونِي عَيَّرُونِي
مَاتَ عُدْمًا، مَاتَ جُبْنًا
أَمْ أَبِي هُوَ مِثْلُ بَاقِي النَّاسِ؟
أَمْ...؟
صَرَخَتْ أَمِينَةُ لَمْ تَعُدْ تَقْوَى عَلَى
كِتْمَانِ مَا فِي نَفْسِهَا
شَدَّتْ بِرَأْسِ وَحِيدِهَا
رَمَقَتْهُ كَانَ الدَّمْعُ يَغْزُو وَجْهَهَا
قَالَتْ: بُنَيَّ لَكَ الدِّيَارُ لَكَ الْبِحَارُ
لَكَ الْفَخَارُ لَكَ الْجِنَانُ لَكَ الْمَزِيدْ
فَازْهُو عَلَيْهِمْ فِي الْحَيَاةِ وَفِي
الْمَمَاتِ... أَبُوكَ يَا وَلَدِي
شَهِيدْ
فَاخْرُجْ إِلَيْهِمْ يَا بُنَيَّ وَقُلْ لَهُمْ:
وَلَدُ الشَّهِيدِأَنَا، أَنَا وَلَدُ الشَّهِيدْ
قَيْسٌ أَنَا وَأَبِي شَهِيدْ.