في عام 1995م كتبت مقالًا نُشر بصحيفة الشرق القطرية بعنوان :" حتى لا تُصبح أقطار الخليج قدوة سيئة " ، شخصت فيه حال وممكنات أقطار الخليج وحجم تموضعها في وجدان المواطنين العرب ، من يراها حاضن مقدسات المسلمين ، ومن يراها ذات فضل عليه وعلى الاقطار العربية في تشغيل العمالة والاسهام في التنمية والعون في المجهود الحربي ، ومن يعجب بسياسة النأي بالنفس للقادة الآباء المؤسسين لأقطار الخليج وحيادهم الايجابي في القضايا العربية الجوهرية ووقوفهم على مسافة واحدة من الفرقاء العرب والخلافات العربية العربية فقد كانوا محضر خير في مناسبات خلافية كثيرة .
فقد كانت أقطار الخليج الملاذ والملجأ بعد الله سبحانه وتعالى للكثير من الأشقاء العرب وحاضنة ومنشأ لأهم قضية عربية معاصرة وهي قضية فلسطين . كما كانت أقطار الخليج في تكامل عضوي مع هموم الأمة وآلامها وحاضرة في دعم حركات التحرر العربية كثورة الجزائر عبر جهود شعبية ورسمية ظاهرة ومقدرة .
بعد غياب الزعيم الخالد جمال عبدالناصر عن الساحة عام 1970م وتجفيف ثقافته لم تتيتم الأمة العربية فحسب بل تشظت بأفكارها وأولوياتها وتوجهاتها وخياراتها وتوزعت كشيع بين سياسات الاستقطاب والمحاور والاحلاف وهي فاقدة لأدنى مقومات المناعة والتحصين والمقاومة بل والهدف ، فالزعيم جمال عبدالناصر كان بمثابة الضامن وصمام الأمان للوحدة العربية والتضامن العربي والأمن القومي العربي بل وكان الجامعة العربية كذلك ، بزعامته وهيمنة شخصيته وحيوية الحاضن العربي والمحور والمتمثل بـ مصر عبدالناصر .
تشظت الأقطار العربية الى من اعتقد بأنه كيان مستقل ولا تربطه بالعرب سوى الجغرافيا وبعض التاريخ ، وبالنتيجة أصبح ينظر لقضايا الأمة ويتعامل معها كأي قضية سياسية في العالم فقط لا غير ، وهؤلاء تبناهم الغرب وأطلقوا عليهم تسمية حلفاء من باب الدعم النفسي ، وهناك من أعتقد بأنه أقليم عربي في كيان عربي كبير وأسس سياساته على هذه القاعدة فأستعداه الغرب وأطلق عليه الدول المارقة !!
غياب الزعامة وغياب النظرة السياسية الشاملة والعميقة للنظام الرسمي العربي تجاه مصير الأمة وما يحيق بها ويُحاك لها ، وغياب رجال الدولة تباعًا في الوطن العربي على المستوى القُطري والاقليمي سهل الاختراق المُنظم للوطن العربي وعودة الاستعمار الجديد عبر تكريس التبعية والاستقطاب والمحاور ترهيبًا وترغيبًا خوفًا وطمعًا . أعترف وأقر بأن النظام الرسمي العربي اليوم لا يقرأ التاريخ البعيد حتى يقرأ واقع اليوم ولا يقرأ التاريخ القريب حتى يرسم ملامح المستقبل القريب كذلك ، إنه نظام لا يقرأ لهذا لن يُدرك ما يُقرر له من مصير كارثي .
فحين رسخ الزعيم العبقري حافظ الأسد مبدأ أللا حرب وأللا سلم مع العدو الصهيوني منذ عام 1974م أستنزف العدو نفسيًا حتى أتاه صاغرًا عبر بوابة واشنطن عام 1998م ، وحين أعتقد كيان العدو وحلفائه بأن خروج مصر من معادلة القوة عبر كامب ديفيد عام 1979م وقبلها خروج فصائل المقاومة الفلسطينية من الأردن عام 1970م ثم خروج فصائل المقاومة من لبنان عام 1982م سيجعلهم يهنأؤون بسلام دائم ، أنبرت لهم فصائل المقاومة بلبنان وفلسطين من حيث لا يحتسبون لتقض مضاجعهم وتقلب الطاولة عليهم ، ثم أتت العناية الالهية بالثورة في إيران لتنظم الى حلف المقاومة ولتصبح المقاومة هي الكلمة العليا والكلمة الفصل .
هل يعلم النظام الرسمي العربي بأن الكيان الصهيوني لم يحقق انتصارًا عسكريًا واحدًا منذ معركة الكرامة عام 1968م مع الجيش الأردني الباسل ولغاية اليوم وان انتصاراته سياسية بفعل تخاذل النظام الرسمي العربي وعجزه عن ترجمة تلك الانتصارات العسكرية الى انتصارات سياسية !!؟
هل يقرأ النظام الرسمي العربي اليوم الأحداث على الساحة العربية من هذه الزوايا ليؤمن بأن أوراقه اليوم أكبر بكثير من خيارات التطبيع وثقافة كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو ومدريد !!؟ وهل يُدرك النظام الرسمي العربي بأن مجرد صمته مع شتاته وضعفه في زمن المقاومة قوة مؤرقة للعدو !!؟
هل يُدرك النظام العربي الرسمي مغزى ودلالات ثورة 30 يونيو 2013م بمصر العصية !!؟ ومغزى ودلالات انتصار سوريا !!؟ ودلالات الفيتو المزدوج الروسي الصيني المتكرر بمجلس الأمن والتحولات في العالم من حوله !!؟
هل يُدرك النظام الرسمي العربي إن هروب الكيان الصهيوني نحو مايسمى بالتطبيع مع بعض الأقطار العربية الهشة هو اقرار منه بالفشل الذريع في السيطرة الشاملة على جغرافيا فلسطين وتطويع شعبها المناضل!؟ ليت النظام الرسمي العربي يشترط على الكيان الصهيوني السيطرة التامة على كامل فلسطين واعادة قطاع غزة وضم الضفة واعلان القدس عاصمة دائمة له كشرط للتطبيع معه لاحقًا !! هل يُدرك النظام الرسمي العربي بأن التطبيع يعني عودة الأمور الى طبيعتها ونصابها القانوني والمنطقي والأخلاقي ، فماهو الطبيعي بيننا وبين كيان غاصب ومحتل!!؟ هل يُدرك النظام الرسمي العربي أن التطبيع يعني سهره على حماية مصالح واتفاقيات زور مع غاصب محتل وإن الثمن هو استعداء الشعوب وقمعها والتضحية بالسلم المجتمعي والسكينة العامة للحفاظ على تلك الاتفاقيات !!؟ هل يُدرك النظام الرسمي العربي إن إقرار التطبيع كمبدأ يعني إقرار احتلال أي قُطر عربي مستقبلًا من قبل أي عصابة أو ميليشيا أو كيان!!؟ هل تسائل النظام الرسمي العربي عما جنته مصر والاردن من التطبيع حتى يتم تسويقه بهذا الحماس اليوم!!؟
الخطر الذي يمثله التطبيع اليوم على أقطار الخليج عظيم بسبب غياب الوعي السياسي لديها وغياب الرصيد النضالي لدى أجيال ما بعد كامب ديفيد خاصة ، والبعد الجغرافي عن فلسطين ومناطق الالتماس مع العدو الصهيوني ممايجعل أقطار الخليج وشعوبها اليوم تنتحل صفة العداء للكيان الصهيوني أكثر من ايمانها بذلك وكما كان حال أبناء الخليج في الستينيات ومطلع السبعينيات من القرن المنصرم . لهذا لا أستغرب شخصيًا في الخلط مابين الصهيونية واليهودية والاحتلال والخلافات الحدودية والسلام والاستسلام والسلام والتطبيع ويهود بحر الخزر ويهود خيبر !! فأقطار الخليج لم تعش يومًا ماعاشه أشقائهم في فلسطين ودول الطوق من حروب وتهجير وقتل وتدمير وفقد ويتم وترمل بل قيل لهم ونقل لهم ، لهذا يرحب اليوم البعض من دهماء الخليج بالتطبيع كما يرحب بعضهم ويبشر بالأردوغانية ويمجد الاحتلال العثماني لأنه لم يكتوي به .
شتان مابين الرضوخ للضغوطات والامتثال لمقتضيات السياسة العميقة ومابين أن يُطلب منك الانتحار فتلبي الطلب دون رفض أو نقاش أو تفكير !! فالتطبيع يعني نهاية صراع وليست حرب ، فالصراع ينتهي بزوال طرف أو تذويبه وصهره أما الحرب فتنتهي بين منتصر ومهزوم . التطبيع في زمن كامب ديفيد خيانة كبرى أما اليوم فهو خيانة كبرى وبلادة سياسية من العيار الثقيل .
يقول المفكر محمد حسنين هيكل : الدولة التي لا تستطيع قول (لا) في زمن ما وتجاه قضية أو موقف ما وفي وجه كائن من كان لا تستحق أن تكون دولة .
قبل اللقاء : السياسة ليست فن المُمكن فحسب ، بل فن التموضع في الوجدان الشعبي وضميره وترجمة صادقة لمشاعره وتطلعاته ومصيره .
وبالشكر تدوم النعم
مسقط : 2020-8-14م



