كتب أسد زين غندور: إشكاليّة وسيرورة بناء المجتمع المدني.
مقالات
كتب أسد زين غندور: إشكاليّة وسيرورة بناء المجتمع المدني.
أسد غندور
28 كانون الأول 2021 , 13:58 م


كثُرَ في الآونة الأخيرة، على الصعيدين المحلي والعالمي، بوتيرة أو بأخرى، الحديث عن الديمقراطية والمجتمع المدني وقضايا حقوق الإنسان، لا سيما بعد إنهيار النظم الشمولية في العالم. وإنه لمن دواني الغرابة والإستهجان أن تشترك في هذه الدعوة قوى التغيير والتقدم والديمقراطية مع القوى العالمية المعادية لمشروع نهضة الشعوب الضعيفة وتحررها وتقدمها، وعلى رأس تلك القوى الولايات المتحدة الأميركية واتباعها وأدواتها في العالم.

ومنعاً لهذا الإلتباس الحاصل، علينا أن نحدِّد تعريفاً للمجتمع المدني، وسياق تاريخي لإطلاقه، ثم العمل على التمييز، بشكل حاسم، حول خلفية الدعوة المشتركة لهذين التيارين المتناقضين في الأهداف والرؤى. وصولاً إلى تحديد من يمثل المجتمع المدني على الساحة اللبنانية، بجرأة وبدون مراعاة.

إن المجتمع المدني الديمقراطي كمفهوم نظري وشعار تطبيقي، هو أحد مداخل العرب لولوج العصر، وتجاوز حالة الفوات والتأخر التاريخيين التي تفصلنا عن القسم المتقدم من العالم. ومن أجل بناء الدولة المركزية الواحدة القوية والمتماسكة والحديثة. ويمكن توصيف هذا المفهوم بالسمات التالية:

أولاً: إنه مفهوم مفتوح، ليس له تعريف وتحديد جامع مانع، فلقد اكتسب مضامين مختلفة حسب المراحل التاريخية والبيئات والبنى الاجتماعية والثقافية التي أُستخدم فيها، وحسب المفكرين الذين استخدموه.

ثانياً: إنه مفهوم أوروبي النشأة والتطور، وكان إحدى نتاجات عصر النهضة الأوروبي. هذه الحقيقة لا يُقلل من شأنها بعض المفكرين العرب عبر مقابلته بمفهوم المجتمع "الأهلي"، وغير ذلك من المفاهيم والتسميات.

ثالثاً: إن طابعه المفتوح وغير المحدّد، جعله غير مرتبط باسم مفكرٍ معينِ أو مدرسة فكرية أو بدولة معينة أو بمرحلة تاريخية بعينها.

رابعاً: إن ما عرفه هذا المفهوم في القرنين التاسع عشر والعشرين من تطور جنح في اتجاه مغاير للتحديدات التي وضع إطارها العام المؤسسون الأوائل أمثال (جون لوك – روسو – هوبيتر – سبينوزا وغيرهم).

​فأصبح يعبر عن التطور الهائل الذي حصل في بنية كل من الدولة والمجتمع الأوروبي من جهة، وعن تطور العلاقة بين الدولة والمجتمع من جهة أخرى. فالدولة تطور لديها نزوع السيطرة والاحتواء، والمجتمع تطور لديه نزوع الاستقلال والانفلات من قيود الدولة.

خامسا: إن استعارة هذا المفهوم، الذي نشأ في بنية ثقافية أوروبية، وتطور في سياق تطور البنية ذاتها، تقتضي منا ولجعله إحدى الأدوات المفاهيمية التي يتعامل معها العربي المعاصر، إكسابه مفهوماً إيديولوجياً بالمعنى السلبي للكلمة.

إنّ غرس هذا المفهوم في التربية الثقافية العربية، وخاصة عند الشباب المتنورين الذين يشكلون العصب المتين في إعادة بناء الدولة الحديثة من جهة وأصحاب المصالح الحقيقية في التغير والتقدم، من جهة أخرى، بعد معاناة قاسية ومريرة وترهل وتخلف بنيتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

إنّ التأسيس لهذا المفهوم في الواقع الاجتماعي العربي لا يزال يشكّل مطلباً ملحاً، يجب أن يُدرج على جدول أعمال وبرامج كافة القوى الوطنية والقومية الديمقراطية المناهضة لكل أشكال الهيمنة من الداخل والخارج، ولكل أشكال التسلط والنهب السائدة. ومضامين هذا المفهوم بالنسبة لأمتنا تتحدد بمجموعة من الحدود والتعيينات أهمها:

1- المجتمع المدني الديمقراطي هو التجسيد العياني للأمة وهو بذلك يتصل بالمسألة القومية الديمقراطية في مستواها الواقعي، وهو المجتمع المدني الذي يفرز دولة – الأمة.

2- إنه مجتمع متعارض مع حالة التأخر التاريخي العربي، ومع الإيديولوجيات التقليدوية بكافة تلاوينها: القديمة منها والجديدة، التي تشكل إستلاباً للإنسان وتحكم على مجتمعاتنا بالإبتعاد خارج أسوار العصر.

3- يشكل هذا المجتمع مصهراً تندمج فيه مختلف الجماعات والفئات الدينية والمذهبية والإثنية والقومية والعرقية واللغوية... الخ، فهو مجتمع مندمج قومياً واجتماعياً وتضمحل فيه الإنقسامات العاموية لتحل محلها انقسامات أفقية جديدة (طبقية مثلاً). كما أنه مجتمع نجح في نفي الحرب الداخلية العبثية إلى خارج نطاق الأمة.

4- هو مجتمع مؤسس على حرية الفرد وحقوق الإنسان والمواطنة، وبالتالي على التعدد الفكري والإختلاف والتعارض واحترام الآخر. ومفهوم الحرية متجذر في الملكية وفي علاقات الإنتاج الإجتماعي. إنه مجتمع لا يمتص الفرد في الجماعة، عشيرة كانت أم طائفة أم مذهب أم طبقة إجتماعية أو حزباً سياسياً. ولا يلغي بالتالي ذاتيته واستقلاله، التي هي ضمانة استقلال المجتمع برمته.

5- مجتمع ينتج دولة الحق والقانون، وبالتالي يتعارض مع عسكرة الحياة السياسية ومع الطابع الشمولي للدولة القطرية، ومع إندراج هذه الدولة في مشروع الهيمنة الاقتصادية والسياسية والإمبريالية.

6- مجتمع ينتج آليات الإنعتاق من شباك الهيمنة السياسية الخارجية على أمتنا، على كافة الصعد، وينتج لنفسه عبر هذه الآليات قدرة السيطرة على مقدراته وثرواته ومصيره.

7- مجتمع متعارض، على طول الخط، مع المشروع الصهيوني المعادي للأمة ونهضتها ووحدتها وتقدمها، وبالتالي متعارض مع كل محاولات فرض التسويات على الأمة وفرض النظام الشرق أوسطي، الذي هدفه إلغاء الهوية القومية العربية أو تذريرها.

8- المجتمع المدني الديمقراطي هو مجتمع الشغل والإنتاج، مجتمع المنتجين لا مجتمع الجمعيات المتصالحة مع الخارج والتي تعيش وتنمو كالطحالب على حساب المساعدات الخارجية المعروفة أهدافها. إنه مجتمع السيطرة على الوقت واستغلاله أفضل استغلال، وبالتالي هو متناقض مع الطابع الاستهلاكي الذي تفرضه الرأسمالية المتوحشة على العالم.

9- وأخيراً، فإن المجتمع المدني، الذي يمثل القيم الديمقراطية، هو المجتمع الذي تتحقق فيه ومن خلاله الديمقراطية، لا بصفتها صندوق اقتراع وحرية صحافة وأحزاب وبرلمان فحسب، بل بوصفها الليبرالية + مفهوم الشعب.

إنطلاقاً من هذا المفهوم، ومن هذه المحددات للمجتمع المدني، يمكننا القول بوجود تيارين متناقضين في فهم وتحقيق ومسار المجتمع المدني:

أولاً: تيار الليبرالية الإقتصادية المؤمركة: حيث يقول هذا التيار: إنّ الليبرالية هي "سقف التاريخ"، ويدعو إلى تحقيق "الديمقراطية السياسية"، في دول العالم المتأخر، كدولنا العربية، ولو بالقوة والإرهاب والإحتلال والسيطرة والتبعية، بحجة مكافحة الإرهاب. إنه يهدف إلى تمرير السياسات الإمبريالية وتسويقها. وهو يعني وفقاً لمنطوق صندوق النقد الدولي عملية الخصخصة للإقتصادات المحلية وإنهاء الدور الوطني المستقل للدولة، ونقل القطاع العام إلى ميدان تحالف غير متوازن بين رأس المال المحلي ورأس المال الأجنبي.

إن "غيرة" الغرب وحرصه على الديمقراطية السياسية وحقوق الإنسان في دول ما يسمى بالعالم الثالث، دون أي اعتبار للمصالح الوطنية والقومية، تجري في سياق إعادة كمبرودوريته ودعوته إلى "النظام العالمي الجديد"، وتهميش دول العالم، وسلبها حريتها في القرار السياسي، ودورها في عملية النهضة والتقدم.

وتفجير الصراعات الداخلية المدمِّرة، وابقائها ضعيفة مخفية مرتهنة للخارج. ومقدمة لتبرير التسوية بالمفهوم الأميركي – الإسرائيلي المفروضة على شعبنا وعلى أمتنا.

ثانياً: التيار الوطني والقومي والديمقراطي: ينادي هذا التيار بتأسيس مقدمات وركائز المجتمع المدني كمفهوم نظري في البنية الثقافية وكمؤسسات وأطر على صعيد الواقع الاجتماعي – الاقتصادي. باعتبار أن هذا التأسيس موجهاً أساساً ضد الهيمنة الخارجية على مقدرات الشعوب ومصائرها أولاً، وفي بلادنا ضد الاستعمار الاستيطاني الصهيوني ومحاولات فرض تسويته والتطبيع معه ثانياً. وضد هيمنة الدول الشمولية على المجتمع ومؤسساته ثالثاً، وفي مواجهة التآمر التاريخي لأمتنا رابعاً، وفي مواجهة حالة التذرر والتكسير العامودي لمجتمعنا إلى عشائر وطوائف ومذاهب وأقليات وإثنيات خامساً.

من هنا، يمكننا القول، إن ما يطلق عليه زوراً اليوم بـ "المجتمع المدني"، على بعض الجمعيات المفبركة والضعيفة والمنتشرة كالطحالب، والمرتهنة كلياً للخارج، لا يمت بصلة مع حقيقة وواقع المجتمع المدني المطلوب إرساءه والإعتماد على بنيته في إعادة بناء الدولة.

المجتمع المدني الديمقراطي، لم ولن يكون، إلاّ ضمن الأطر الوطنية بالدرجة الأولى، ولم يغلِّب إلاّ المصالح الوطنية والقومية على كافة المصالح الأخرى.

وفي مواجهة الحملة المنظمة دولياً وإقليمياً ومحلياً على القوى المقاومة، رغم الملاحظات على هذه القوى، لا يمكن للمجتمع المدني الديمقراطي الوطني إلاّ أن يقف بحزم ووعي ومسؤولية في المواجهة، وأن لا يقبل، تحت أية ذريعة، الرضوخ لشروط وإملاءات القوى والدول والأحزاب الإقليمية والدولية والمحلية التي تسعى جاهدة لإنهاء مشروع المقاومة، كمقدمة لفرض شروطها في التسوية المذلة ونهب الثروات والضرب بمصالح الشعوب وطموحاتها في التحرر والوحدة والتقدم.

أسد زين غندور 

المصدر: موقع إضاءات الإخباري