منذ بدء العملية العسكرية الروسية في مواجهة تقدم حلف الناتو نحو الحدود الروسية، وتحول أوكرانيا إلى ساحة حرب، وتحول الشعب الأوكراني والجيش الأوكراني والِاقتصاد الأوكراني إلى وقود لحرب ميؤوس منها،وتفاديها وَقْفٌ على قبول صيغة الحياد، بدلاً من وهم الِانضمام إلى حلف الناتو الذي تقوم عقيدته على إعلان روسيا عدواً أول، وانضمام أوكرانيا إليه يعني إعلان حرب على روسيا، وخطة الناتو تقوم على خوض حرب إعلامية على جبهتين، بدلاً من الحرب العسكرية التي يخشى خوضها:
الجبهة الأولى هي إقناع الأوكرانيين بمواصلة القتال وحدهم، رغم تخلّي الناتو عنهم، والتوهُّمُ بأنّ العقوبات المفروضة على روسيا من جهة، والأسلحة والأموال التي يتم شحنها عبر الحدود إلى أوكرانيا من جهة أخرى، تكفيان لإفشال العملية العسكرية الروسية.
أما الجبهة الثانية فهي موجّهة للعالم وللأوكرانيين معاً، ومضمونها إقناع الرأي العام بأنّ مِعيار النجاح والفشل، ليس التقدم في الجغرافيا، ولا تجاوز تأثير العقوبات، بل عدم تحقيق ذلك بسرعة، ومعيار السرعة وضعت له معادلة النجاح بدخول كييف في يومين أو ثلاثة، وهو أمر يحتاج لإثبات واقعيته قبل تسويقه.
القطبة المخفيّة كلها في جملة نسبت زوراً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي قال: نبدأ عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا، فأضيفت إليها من مكان مجهول معلوم كلمة سريعة، وسرت كالنار في الهشيم، وصار الحديث عن سريعة قبل أي شيء آخر، ثم صارت السريعة بيومين أو ثلاثة.
المعيار للقياس هو ببساطة، حيث واجهت أمريكا التي تعتبر أنها قوة عظمى أشد قوة من روسيا، خصماً مشابهاً أقل قوة من أوكرانيا، وأخذ الزمن الذي احتاجته أمريكا لفرض سيطرتها، قياساً لما يحدث مع روسيا، حيث امتلأت الصحف والتقارير الغربية والقنوات الفضائية الأجنبية والعربية بتحليلات الخبراء،والضباط المتقاعدين الفاشلين عسكرياً،ليبيعوانظريةالفشل ويدخلوا في استصناع أسباب مفترضة له،مُستنسَخةٍ عما كتبه خبراءالبنتاغون، مرة بالحديث عن مشاكل لوجستية، وأخرى بالحديث عن ضعف السيطرة والقيادة، وثالثة بالحديث عن نقص المحروقات، ورابعة عن ضعف استخباري، ودائماً بفعل المقاومة الأوكرانية، وصولاً لآخر المبتكرات بالحديث عن نقص في عدد الجنود الروس اللازمين للفوز بالنجاح، وكلها عناصر يمكن قبول نقاشها اذا ثبتت القطبة المخفية الأصلية، وهي أن العملية العسكرية الروسية فشلت، وأن معيار الفشل هو السرعة
بالقياس، أمامنا تجربة أمريكية في حرب يوغوسلافيا، عام 1999، بعد عشر سنواتٍ من حرب أهلية مدمّرة، لبلد مِساحتُه لا تعادل 15% من مساحة أوكرانيا، وعدد سكانها كذلك 15% من عدد سكان أوكرانيا، وليس لها حدود مع أي دعم تتلقاه، وحكومة معزولة سياسياً داخل أوروبا وخارجها، وفي زمن السطوة الأمريكية الأُحادية على العالم، لم تنتصر أمريكا إلا بعد 78 يوماً من القصف المدمّر؛ ما يعني أنّ الخبرة الأمريكية،إذا قامت على اعتبار روسيا بالقدرة الأمريكية ذاتها، وبوضعيتها ذاتها، في ظل الأُحادية، واعتبرت أن أوكرانيا في ظروف دولية وداخلية مشابهة لظروف صربيا، وحصرت المقارنة بالمساحة وعدد السكان، فإن المدة التي يجب أن تحاسب روسيا على أساسها في حسم معركة كييف، يجب أن تكون ستة أضعاف الـ 78 يوماً، اي سنة ونصف السنة.
وهناك تجربةأخرى خاضتها أمريكا، وهي في ذروة سطوتها، بغزو أفغانستان والعراق، ونجحت خلالها بدخول كابول بعد شهرين، وبغداد بعد عشرين يوماً، وأعلن الرئيس الأمريكي نهاية العملية العسكرية في العراق، بعد 40 يوماً، وكانت الحصيلةالاعتراف الأمريكي،بعد أقل من سنة، بفشل ذريع، والكشف عن تحوُّل العراق إلى مستنقع يغرق فيه الأمريكيون، وصولاً للقبول بالانسحاب دون تحقيق الهدف.
بالمقارنة، يبدو واضحاً أن الأمريكيين بخوضهم حرباً إعلاميةً تحت عنوان: «السرعة معيار النجاح»،يريدون عبرها لعملية الروس في أوكرانيا مصيراً مشابهاً لمصير العمليتين الأمريكيتين في العراق وأفغانستان:ا لغرق حتى الأذنين بالفشل، وسلوك الطريق الذي سلكه الأمريكيون، وهو البحث عن نصر سريع عنوانه احتلال العاصمة،وتنصيب حكم بديل تابع، والدخول في مواجهة
مقاومة شعبية تنطلق من رفض الاحتلال، بينما يحرص الروس على خوض عملية عسكرية تنتهي باتفاق سياسي مع الحكم الأوكراني الحالي.
موسكو تعرف أنه لن يحدث، إلا إذا اقتنع الغرب بلا جدوى حملاتهم المالية والإعلامية، ومساندتهم العسكرية للحكومة الأوكرانية، لجعل روسيا تقع في فخ القطبة المخفية، وتتحول الى قوة احتلال لا تعرف ماذا تفعل بالدولة التي تحتلها، ولا كيف تحمي نظاماً تابعاً تقيمه فيها،وموسكو تعرف كيف تدير عناصر اليأس الغربي.
انطلاقاً من النجاح في احتواء الصدمة الأولى للعقوبات، وتمتين تحالفاتها مع الصين وإيران، ومواصلة التقدم الثابت والهادئ في الجغرافيا الأوكرانية، مع الحذر الشديد من التورط في أعمال قتل جماعيّ للمدنيين، ومواصلة السعي التفاوضي لجعل خيار الحياد الأوكراني نموذجاً لمناطق عازلة تفصل روسياعن حلف الناتو، منعاً للاحتكاكات التي يمكن أن تؤدي لنشوب حرب عالمية.