مقالات
"إسرائيل" زيلينسكي الثانية\ طارق الأحمد
طارق الاحمد
22 نيسان 2022 , 15:40 م


لعلّ توجه روسيا اليوم قبل الغد لتوسيع المواجهة مع الولايات المتحدة الأميركية على الأرض السورية شرق الفرات المحتل، سيكون أولى علامات صفاء ألوان خنادق المعركة.

"إسرائيل" زيلينسكي الثانية

لم أجد في هذه الحرب أبلغ من فضح الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ماهية حكمه لأوكرانيا والدور الحقيقي المنوط به وبها، حين قال صراحة إنه يريد لأوكرانيا أن تصبح "إسرائيل" الكبرى الثانية في الشمال.

للمرة الأولى، يقدم أبو الطيب المتنبي، الفيلسوف التائه في قومه، كلّ الحكمة للرئيس فلاديمير بوتين، فيقول له: "وسوى الروم خلف ظهرك روم فعلى أي جانبيك تميل".

لقد أعلن الرئيس بوتين أن هذه الأزمة هي حرب عالمية ثالثة، حين استحضر غزو أميركا للعراق ويوغوسلافيا وأفغانستان وسوريا، وبقي أن يقول فلسطين، لكن متى سيقولها؟ وهل هذا بعيد أم قريب؟

أعلم تماماً ماهية الخطاب الدبلوماسي الروسي. وقد خبرته في أول لقاء لي مع وزير الخارجية سيرغي لافروف، حين قلت له: "إنكم تصرون على تعبير شركائنا الغربيين، وعلى باقي التصريحات حول العلاقات مع إسرائيل، لكن الوصول إلى ساعة الحقيقة يتطلّب العودة إلى المتنبي، وليس إلى الخطاب الدبلوماسي المرتبط بحال متغير"، فالمشروع الذي يقاتله بوتين هو خلق "إسرائيل" ثانية على حدود روسيا، وليس هواية ضمِّ أراضي دول الجوار وقتل الآمنين، وهنا يكون الفرق كبيراً.

هنا، يجب تعريف "إسرائيل" بأنها مشروع وذراع تفتيت تستخدمها الإمبريالية العالمية بوجه كل شعوب العالم، والأمثلة كثيرة، وهي ليست "دولة" يمكنها أن تعيش بسلام مع الآخرين، لأنها تناقض، في حال وجود ذلك السلام المفترض، أساس تركيبها. وأفضل من يعبر عن ذلك الآن هو الشارع الإسرائيلي نفسه، بعيداً عن كل تحليلات السياسيين.

لن أطيل هنا في شرح كيفية بناء السياسة الروسية، وكيفية صعود الوطنية بالتعايش مع الأوليغارش الضاغط لتأييد "إسرائيل"، وهو ما كتبت عنه بإسهاب سابقاً، ولكن وصول الحرب بين الغرب الإمبريالي ومشروع الشرق الأوراسي الذي أعلن منظّره الأول ألكسندر دوغين أنه يهدف إلى نيل أفريقيا وأميركا اللاتينية أيضاً، وكمثال، حريتها، لا بدّ من أنه سيقترب أكثر من الحقيقة التي نبه إليها المتنبي وفضح أمرها زيلينسكي.

لعلّ توجه روسيا اليوم قبل الغد لتوسيع المواجهة مع الولايات المتحدة الأميركية على الأرض السورية شرق الفرات المحتل، سيكون أولى علامات صفاء ألوان خنادق المعركة، إذ إنه سينهي مسرح العبث بين القرار 2254 ورهن مصير الشعب السوري في أمنه ولقمة عيشه بيد الأطماع الإقليمية والدولية، ويعلن للشعب السوري الذي تحمّل أقسى أنواع الإرهاب والقتل والخطف والتهجير والتجويع بأنّه حليف لدولة قوية، حين يكون قوياً ويساعده حلفاؤه الذين يقف معهم ليقوى ويتمكّن من ذلك، أي أن سوريا ستخرج من أزماتها، وستعود لاعباً إقليمياً مهماً بالتحالف مع روسيا وإيران والصين، وليست دولة تنتظر تلقي المعونات وخيراتها مستلبة ومستباحة.

روسيا بوتين بدورها أعلنت الحرب على الغرب الإمبريالي، وها أنا أستعيد، كما سيقول كثيرون، مصطلحات الماضي. ليس ذلك فحسب، بل إنَّ نظرية المؤامرة هي أكثر النظريات صحّة، والتي ركب الغرب ثقافة إعلامية مستجدة لمحوها من ذاكرتنا واتهام من يستخدمها بالسذاجة، وكأنَّ مؤامرة "سايكس بيكو" ومؤامرة بريطانيا وفرنسا على شريكهما الثالث سيزانوف الروسي، كانت حالة عادية، ولم تغير وجه العالم كله، والأدلة كتبتها أيضاً في بحث مطول سابق بعنوان "روسيا والمشرق"*.

هنا، لا يكفي روسيا بوتين أن تعلن الحرب لكي تفوز بها، وأتذكر أيضاً أن البروفيسور ألكسندر دوغين، الذي يُكنّى بـ"مفكر أوراسيا"، نشر كتاباً في روسيا بعنوان جريء هو "بوتين ضد بوتين"، شرح فيه مكامن القوة والضعف، وأسدى فيه الكثير من النصح لرئيسه الذي يأبى إلا أن يسميه القيصر، وهو يعلم ضمنياً حين ينشر ذلك بجرأة بأنه لا يشهّر بأخطائه التي يتحدث عنها، بل يعينه على إصلاحها، ولو بعد حين، أي حين يصير الوقت مناسباً، وهذا ما يبدو أنه يحصل تباعاً، إذ لن تستطيع روسيا هزيمة الغرب، طالت الحرب أو قصرت، وأبناء روسيا، كما أبناء العالم وأبناء الدول الحليفة لها، كسوريا مثلاً، لا يحلمون إلا بالسفر إلى دول هذا الغرب!

قد يبدو هذا الموضوع بعيداً عن التناول السياسي، وخصوصاً في أوساطنا العادية، لكنني أعنيه بجدية تامة. لقد تعملقت الولايات المتحدة الأميركية وتفوّقت، رغم أنها خرجت من إبادة سكان الأرض الأصليين، ثم ساقت العبيد من أفريقيا، ثم دخلت حرباً أهلية طاحنة، لكنها نجحت في أن تكون نظرية عالمية، اسمها الحلم الأميركي، حيث يتمتع الإنسان بالحرية ويستطيع تحقيق أحلامه.

أما النقاش في صحة الأمر، فمكانه ليس هنا، إذ إنّني أقول إنها نجحت في تسويق الأمر، بغض النظر عن مدى صحته، كما أن الغرب نجح بدرجة تالية بعد أميركا في ذلك. ونتيجة للأمر، تربع كل الغرب لمئة عام وأكثر في كشط صفوة الإنسان من الكرة الأرضية كلها للهجرة إليه، فكيف لا يتفوق!

إن روسيا أكبر دولة في العالم بمساحة 17 مليون كيلومتر مربع، وبعدد سكان يقل عن 150 مليوناً، أي أقل من نصف عدد سكان باكستان مثلاً، وبثروات هائلة، إضافة إلى تربعها على عرش الطاقة من النفط والغاز والطاقة النووية والفحم، فكيف استطاعت الصين أن تتحول إلى دولة اقتصادية كبرى تنافس أميركا، ولم تستطع روسيا التفوق على إيطاليا اقتصادياً؟

تربّعت الولايات المتحدة الأميركية على عرش الدول الأولى، لأنها غدت حلم المتفوقين والعلماء والموهوبين والفنانين ورؤوس المال وكلّ من يريد تحقيق حلمه، ولو تجريبياً، وبالتالي كانت كاشط الزبدة الأول لإنسان العالم.

اليوم، على روسيا أن تتحول تحولاً جذرياً لتغدو ذلك الحلم، وخصوصاً بعد أن وصلت الإمبراطورية الأميركية إلى مرحلة أرذل العمر، حسبما يقول ابن خلدون، وبدأت تبني الجدران مع المكسيك، وتمنع الهجرة إليها.

يمكنها أن تبدأ بالاستثمار في روسيا بدلاً من تكديس مئات المليارات في بنوك الغرب، والتي صودر معظمها، إذ إنها تؤسس عشرات المدن الحديثة بفلسفة حياة عصرية وقيم حضارية عالية بعكس القيم الإمبريالية العنصرية، فتجعل من العيش فيها قبلة للعلم والفن والإبداع والحرية.

إن اختلاط ثقافات الشعوب فيها حتى داخل الاتحاد الروسي نفسه أو خارجه كفيل بإنتاج ثقافة عصرية حديثة تحارب التطرف والعنصرية، وتشكّل الترياق بوجه السم الزعاف الذي جهزه الغرب الإمبريالي لها في المشروع الذي فضحه الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي لإنشاء "إسرائيل" الكبيرة الثانية.

هل سنشهد ولادة الولايات المتحدة الروسية التي ستكون القوة المانعة لولادة "إسرائيل" زيلينسكي الثانية، وتالياً "إسرائيل" بلفور الأولى؟

المصدر: موقع إضاءات الإخباري