قد يجادل أحد ما في عظيم أهمية ما يحصل في فلسطين ويرى أن تناول هذا الأمر أكثر إلحاحاً من تناول أعمال هزلية تجري بين الحين والآخر، يقوم أثناءها معتوه ما بإحراق نسخة من القرآن الكريم...
قد يقول آخر إن ما يحصل في أوكرانيا يفوق أهمية بأضعاف عن مجرد إحراق نسخة من "كتاب"!!!...
في نظر هؤلاء... ليس القرآن إلا مجرد كتاب...
قد يراعي المرء هؤلاء ويذهب معهم إلى منتصف طريق الجاهلية التي يرسمون خيوطها، تحميهم زمر حاكمة في أوروبا تدعي حرية التعبير، تدعو إلى الديمقراطية، بينما هي تمارس الديكتاتورية الفكرية التي تقترب كثيرا من فلسفة الإرهاب الفكري في واقع الأمر...
نعم قد يقبل المرء فرضية أن القرآن هو مجرد كتاب...
تصوروا لو أن أحدهم قام بإحراق نسخة من مسرحية روميو وجولييت أو اي كتاب أو عمل من أعمال عملاق الأدب الإنكليزي وليم شكسبير...
ماذا كان سوف يكون موقف الإنكليز...؟
أو ربما عمل من أعمال داروين... أو جورج برنارد شو... أو... أو...
تصوروا لو أن أحدهم قرر إحراق نسخة من إلياذة هوميروس...
تصوروا لو أن جاهلا ما، والجهلة من عامة البشر يُعدّون بمئات ومئات من الملايين؛ لو قرر هذا الجاهل إحراق أعمال غوته الألماني، أو ديكارت الفرنسي، أو أي عمل من أعمال عظماء البشرية...
ماذا كان ليحصل...؟
لقد فعلها جاهلية البشر مع الفلسفة اليونانية إلى أن أعاد العرب هذه الفلسفة إلى الوجود...
فعلها غزو التتار لبغداد وإحراق كنوز المعرفة الإنسانية التي اشتهر العباسيون في جمعها...
فعلها احمد باشا الجزار...
فعلها هتلر...
واليوم تفعلها أوروبا، لكن تحت عنوان حرية التعبير...
حرية التعبير... يقول جهلة أوروبا... سواء من رعاع الشارع أم من الأحزاب والبيوت الحاكمة...
دون الخوض في تعدد المعايير عند هذا الغرب الممعن في الكذب والرياء، والذي يمنع حرية التعبير ليس في انتقاد الفكر الصهيوني الذي يشبه في الكثير الكثير، عنصرية النازية... بل يذهب حتى الى حدود منع انتقاد "دولة" إسرائيل بحجة منع معاداة السامية، في خلط مقصود للأمور لا يقوم بها سوى من أفكاره قائمة على الجهل والكراهية...
كل هذا على صحته، ليس مدار البحث...
كذلك الأمر في مسألة قدسية هذا الكتاب أو اي كتاب سماوي آخر...
المسألة هي في منطق الحرق نفسه...
لو خرج أي مفكر وانتقد الفكر الإسلامي أو المسيحي أو أي عقيدة أخرى، لكان هذا اسهل من أن يقوم جاهل بإحراق كتاب لم يقرأه أصلاً، فقط لأنه يكره أتباع فكر هذا الكتاب...
هنا يغلف الغرب جريمة الكراهية، بأنوار مزيفة من حرية التعبير...
لقد فعلها، ويفعلها الغرب كل يوم حين يمنع على الفتيات المسلمات لبس الحجاب...
ممارسة اللواط والسحاقية في الغرب هي حرية شخصية، أما لبس الحجاب... فهذا جريمة...
ممنوع لبس الحجاب أو وضع قلادة عليها صليب في مدارس فرنسا، لكن حمل الالوان التي تدعو إلى المثلية الجنسية هو تعبير عن السمو الإنساني في قبول الآخر...
أن يكون الآخر مسلما أو مسيحيا ممنوع ذلك...
لكن أن يكون هذا الآخر من قوم لوط... فهذا قمة الإنسانية...
توضع القوانين التي تمارس على المسلمين والمسلمات إرهابا فكريا بكل ما في الكلمة من معنى في أوروبا...
لا يوازيه ارهاباََ ٱلا إلزامية لبس الحجاب لمن لا يؤمن بهذا الأمر في بلاد المسلمين...
حين كانت ابنتي في الرابعة عشرة من عمرها، جاءت إلى أمها وقالت إن المعلمة في المدرسة طلبت منها إخبار المدرسة في حال قررنا يوما إلزامها لبس الحجاب؛ رغم أن القوانين في ألمانيا، أقل إرهابا من فرنسا في هذا المضمار...
قلت لابنتي أن تذهب الى المعلمة في اليوم التالي وتقول لها أن لبس الحجاب هو تقليد القديسات كما العذراء مريم...
وأني رغم رفضي أن يكون الحجاب إلزامياََ في بعض بلاد المسلمين... فاني ارفض بنفس القوة أن يكون منع الحجاب إلزامياََ في بعض البلدان الأوروبية والذي ينطوي على التنكر للمسيحية الأولى ولحرية المرأة في الحفاظ على جوهر وجودها الإنساني الذي حولت الرأسمالية فيه جسد هذه المرأة إلى سلعة تباع وتشرى في أسواق أكثر تمدنا من اسواق النخاسة التي عرفناها فقط في القرون الوسطى، ومع داعش وجحافل التكفيريين المدعومين غربياََ...
السؤال المنطقي لمن يدعي الفكر ويقوم بإحراق نسخة القرآن أو يؤيد هذا الإحراق...
إذا كان هذا الكتاب غير سماوي كما يقولون...
إذا كان هذا الكتاب من تأليف رجل اسمه محمد وهو ليس بنبي...
ألا يجعل هذا الأمر من محمد هذا أهم مفكر وكاتب وفيلسوف وحكيم خرج على البشرية منذ نشوئها وحتى اليوم...
أن يستطيع رجل واحد في ٢٣ سنة أن يقدم للبشرية كتابا هو ربما الأكثر قراءة بين البشر، ويحوي من المعارف على كافة الأصعدة ما لم يقدمه فيلسوف أو حكيم أو عالم منذ الأزل لهذه البشرية، يعني أمرا واحدا...
أن هذا الرجل اهم عبقري أنتجته هذه البشرية...
هل يعقل في هذه الحالة السماح لجاهل فركوح لا يفهم من أمور الأرض والسماء شيئا أن يقوم بإحراق نسخة من عمل هذا العبقري...؟
ليست فلسطين... ولا أوكرانيا...
ولا كل القيم التي يباهي الغرب العالم بها هي ما سوف يجعل من هذا الغرب مخلوقا قابلا للإحترام...
على الغرب أن يحترم ذاته قبل أي شيء آخر...
فقط من لا يحترم ذاته، لا يستطيع أن لا يحترم قيم الآخرين...
إذا أراد هذا الغرب فعلاً أن يسمو، عليه السمو بنفسه فكرياً بدل حصر هذه النفس في كومة من الكراهية لن تؤدي سوى الى مزيد من المآسي التي لن تعود على البشرية ولا على نفس هذا الغرب بأي نفع...