اعتاد العالم في عصر راس المال بما هو استعمار وإمبريالية أي اغتصاب ونهب وتقشيط على ظواهر مناقضة لحقيقة رفض الشعوب المغلوبة لغالبها، فمن اللافت ترافُق هذا الكره للاستعمار من قِبل الشعوب المقهورة الشغل في مشاريع، وخاصة مناجم الاستعمار عموماً، أو شغل الفلسطينيين في اقتصاد الكيان، ناهيك عن استهلاك منتجات مصانعه...الخ.
لكن المهم التنبه إلى أن ذلك عن حاجة لا عن رغبة. ولم تكن الحاجة لأن هذه الأمم لم تكن قادرة على إطعام/إعالة نفسها، بل لأن الاستعمار استلب منها وسائل الإنتاج واستغل قوة العمل من ابنائها في مواقع عمل تحت سيطرته هي قيد الاغتصاب ايضاً. وطبعاً تختلف أكثر الحالة الفلسطينية لأن الكيان انتزع الأرض وليس فقط المشاريع وصار على الفلسطيني الذي لم يتم اقتلاعه وطرده: إما أن يصمد ويقبل بالعمل لديهم أو أن يرحل!
هذا إضافة إلى أن الكيان لم يتخلى عن نظريته في "العمل العبري" أي عدم تشغيل غير اليهود، لكن حاجته الاقتصادية، وعسكرة كيانه أملت عليه تشغيل العرب.
على هامش هذا ظهرت حالات مشوهة في المستعمرات من نمط التشبه بالعدو الاستعماري إلى أن تبلور نقيض الاستعمار في حركات ثورية أعادت الاعتبار لثقافتها وتراثها وانتقلت من الانبهار بالعدو إلى إنتاج ثقافتها هي وصولا إلى الثورة لاقتلاعه.
أما الحالة الفلسطينية بما هي حالة استعمار استيطاني راسمالي أبيض فقد تعايشت فيها مختلف المظاهر المذكورة أعلاه:
أولاً: هناك من انبهر بالعدو وتصالح معه باكراً وبقيت له إمتدادات حتى اليوم ، وهذه حالات استدخلت الهزيمة وهذا المفهوم الأعمق للتطبيع. وضمن هذه الفئة حالات عشائرية ابوية رشاها الكيان بمواقع معينة لإرضاء مصالحها أو شبقها بأن يبقى او يكون لها مركزاً وسطوة اجتماعية حتى لو تمت بدعم سلطة العدو.
ثانياً: أضطرت قوة العمل الفلسطينية للعمل لدى الكيان لأنه استلب مواقع الإنتاج فاستغل قوة العمل، وهؤلاء أُطلق عليهم من يبنون بيوت الآخرين. وهي تسمية ضعيفة المحمول أو مقصود بها المعنى الضمني وذلك لأن الأمر لم يكن اختياراً.
ثالثاً: كما اشرنا اضطر الكيان نفسه لتشغيل الفلسطينيين نظراً لحاجته لقوة العمل وخاصة لسببين هما:1- رفض قوة العمل خاصته لأعمال تسمى الأعمال السوداء من مدخل عنصري وطبقي معاً و2- لأن سلطة الكيان حريصة على امتصاص فائض قوة العمل الفلسطينية كي تبتعد عن المقاومة ولكي تملأ فراغات تركها جنود الكيان لصالح الخدمة العسكرية التي هي طبعاً خدمة ضد الفلسطينيين والعرب! وهنا نرى حالة تناقض لدى الفلسطينيين لكن الخيار الآخر للفلسطينيين هو الرحيل!
ثالثا: برزت لدى الفلسطينيين منذ البداية مظاهر ثقافة رفض الكيان في الشعر الشعبي والأدب وطبعا الجهاد او النضال ا.ل.م.س.ل.ح.
رابعاً: حاول الكيان ولم يتوقف عن إغواء الفلسطينيين ليتخيلوا بأنه "ديمقراطي، تقدمي" عبر ماكينة الانتخابات فيه والتي للأسف لم تكن موجودة في الوطن العربي وغالباً ليست موجودة ، رغم أنها ليست بقدر التلميع المدحوش فيها كظاهرة.
أخطر هذا التلميع هو إغواء الفلسطينيين للمشاركة في انتخابات برلمان الكيان سواء بالترشح والقسم بالإخلاص ل "دولة اليهود" أو بانتخاب أعضاء لهذا البرلمان.
سارت هذه الغواية لفترة، لكن منسوب المشاركة سار في تناقض مع منسوب الوعي العروبي وواصل التراجع سواء المشاركة في الانتخابات أو العضوية في أحزاب صهيونية هذا رغم تهاوي كثير من الأنظمة العربية للتطبيع مع الكيان.
اليوم لحظة فارقة:
لقد حقق الوعي الوطني العروبي تقدما لافتاً ضد المشاركة في هذه الانتخابات رغم التجهيل والكذب الإعلامي والتطبيع العربي الرسمي. لكن هناك عوامل في بنية الكيان ودوره هي ايضاً عوامل تنفير الفلسطينيين من المشاركة في الانتخابات وخاصة كلما جرى توسع الوعي الشعبي النقدي في أوساطهم.
أهم هذه العوامل الثقافة والعقل والمشروع الاستشراقي الصهيوني ضد فلسطين، ونظرته الأنثروبولوجية، واعتماده القوة العسكرية الضخمة ومحترفة القتل.
بالنظرة الاستشراقية أي كيف يرى الصهيوني المستوطن المستشرق أهل البلد؟ إنه كما كتب إدوارد سعيد: "يخلق الاستشراق لأهل البلد الأصليين صورة تم تجريدها في ذهنة، من عندياته وبالتالي يعاملهم ويتعاطى معهم حسب هذه الصورة.
وهنا، يمكننا التقاط العمى لدى هؤلاء المستشرقين حيث ينكروا/يتجاهلوا أو لم يروا لا واقع أنهم استعمار اقتلاعي ولم يدركوا العمق الثقافي والانتمائي للفلسطينين ولم يروا أن المطبعين مجرد استثناء ومشوَّه. لعل أوضح تعبير عن العقل الإستشراقي في ما زعمه أول رئيس وزراء الكيان "ديفيد بن غوريون" بأن الكبار يموتون والصغار ينسون. ولعل أشد ظواهر دحض هذا الفشل الاستشراقي ظاهرة الفدائيين الجدد في الضفة الغربية ودور فلسطينيي المحتل 1948 مؤخراً في معركة سيف القدس. لا بد من ملاحظة بأن ما أنجزه إدوارد سعيد في دراسة الاستشراق قد بهَّته وناقضه هو نفسه بالتورط في الدعوة لانتخابات الكنيست حين زار الناصرة ودعى هناك للتصويت لعزمي بشاره.أما نقده لأوسلو فكان من باب تحسين ما حصل عليه عرفات وليس من باب الرفض.
كما وظَّف الكيان علم الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) أي دراسة المجتمع ككل واحد وثقافته وتطوره وخاصة المجتمعات القديمة والبدائية القبلية وعلاقات القرابة وكل هذا من منظور اعتبارها بدائية
ولذا استخدمتها الإمبريالية. وخاصة المدرسة منها التي تدرس المجتمعات البدائية حيث يرى الصهاينة أن المجتمع الفلسطيني هو تقليدي عتيق، ما قبل راسمالي غير حداثي وبالتالي لا يقرؤونه على أرضية علم الاجتماع أو التحليل المادي التاريخي الذي يرونه مخصصاً للأمم الغربية المتقدمة أو الحداثية، وبالتالي، طالما الفلسطيني بهذه الثقافة، فهو من حيث التطور العقلي والثقافي جاهز لقبول أكاذيب ودعاية الصهيوني. وهذا تحت تأثير الفيلسوف اليهودي الأمريكي ليفي شتراوس الذي طرح ان تقود امريكا العالم كإمبراطورية. وهو من دعاة الاندماج المسيحي-اليهودي اليهوسيحية، مستثنياً الإسلام. كما يُعتبر استاذ المحافظين الجدد في امريكا الذين كان وظَلَّ هدفهم الأساس في المنطقة هو تدمير الوطن العربي لصالح الكيان. هذا إلى أن أتى دور ترامب بديانته الثلاثية الجديدة/الإبراهيمية.
وإذا كان الاستشراق في نطاق العدوان الثقافي والفكري والاقتصادي، وإذا كان الاستشراق يخلو من جانب القوة، فإن الكيان يعتبر مجرد اغتصابه لفلسطين هو نتاج عامل القوة المسلحة والتي هي في الحقيقة بل واساساً قوة المركز الغربي الإمبريالي ومن ثم تسليح الكيان بحيث يتفوق دوماً على مختلف الأنظمة العربية ويبدو في نظر البسطاء كأن ما ربحه من انتصارات هو من جهده وقوته!
فالعوامل أو المرتكزات الصهيونية الثلاثة أعلاه هي عوامل تدفع الفلسطينيين للتصدي لها دفاعاً عن الوطن ورفضاً لمزاعم بدائية الشعب الفلسطيني وتصدياً للسطوة المسلحة للكيان كأداة للثورة المضادة بمن فيها المطبعين عربا وفلسطينيين، فإن هناك عوامل في الكيان نفسه تشجع الفلسطينيين على مقاطعة هذه الانتخابات بشكل اشد هذه الفترة بالذات.
وأوضح عوامل الوهن هذه الخلاف الشديد في الأوساط الحاكمة داخل الكيان حيث جرى تبديل خمس حكومات في اربع سنوات وهذا دليل على عدم توازن اجتماعي سياسي.وليس سهلاً القول أن ما يحصل هو خلاف داخل اليمين، لأن المجتمعات الإستيطانية قلما تولِّد يساراً حقيقياً.
وإذا كان من الضروري توسيع الطرح بالإشارة إلى الحرب في أوكرانيا، فدور الكيان في هذه الحرب يؤكد بأنه يلعب دوراً في مختلف الحروب العدوانية الإمبريالية على صعيد عالمي وهذا يؤكد للعرب والفلسطينيين بأن هذا الكيان يستدعي التناقض التناحري معه نظراً لاجتماع السببين الأساسيين:
• أنه اغتصب أرضا عربية
• ولأنه أداة عدو العرب الأكبر وهو المركز الراسمالي الإمبريالي الغربي.
ومن هنا، فإن المشاركة في انتخابات كيان بهذه البنية والأهداف هو انضمام طوعي إلى هذا الكيان بكل أهدافه وسياساته وجرائمه وتمترس ضد الشعب العربي الفلسطيني بمختلف اسلحة الكيان العسكرية والثقافية والاقتصادية والنفسية...الخ.
أمَّا والفدائيون الجدد يُطرِّزون السماء بالدم، فطوبى لمن يُقاطِع.