كتب زياد سمرين,
هل تعرفون ما هي الزَنّانَة؟ الزَنّانَة هو الاسم الذي أطلقه أهل غزة بحكم التجربة على المُسَيَرات الصهيونية، أو ما يعرف بالطائرات بدون طيار، التي يرسلها العدو الصهيوني للمراقبة، أو لاغتيال المقاومين، أو حتى للقصف أثناء الحروب. السبب في التسمية مصدره الصوت العالي المزعج لبعض محركات المُسَيَرات، او، بالفلسطيني، زَنَّتُها المسموعة. والزنانة، أو الطائرة بدون طيار، مثل كل المُسيرات الاخرى، يتم قيادتها والتحكم بها وبما تفعله أو ستفعله عن بعد من غرفة عمليات من قبل ضباط وجنود يجلسون عادة في قاعدة عسكرية صهيونية تكون بعيدة عن الهدف. بعض المُسيرات الأميركية، مثلا، يتم قيادتها وتوجيهها من قاعدة بعيدة جدا تكون أحيانا في بلد آخر أو حتى في قارة اخرى.
مناسبة الحديث عن الزنانة هو تشابه طريقة عملها مع ما يسمى المنظمات غير الحكومية التي تنبت منذ فترة كالفطر في بلادنا. فهذه المنظمات تعمل في بلادنا فعلا، ولها مكاتبها وموظفوها المدفوعي الأجر، ولها أيضا برامجها وأفكارها ونشاطاتها. لكن يتم قيادتها وتوجيهها مباشرة من غرفة عمليات الممول في الخارج لتنفيذ مهمات محددة. وهذه المنظمات هي في الحقيقة منظمات غير حكومية بالاسم فقط، فتمويلها حكومي غربي، ويأتي من الإتحاد الأوروبي مباشرة ووزارات الخارجية الغربية، أو الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (يو اس ايد)، وهي مؤسسة حكومية وفرع لوزارة الخارجية الأميركية، تديرها الآن سامانثا باور (التي كانت ممثلة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة وقريبة جدا من باراك أوباما وكانت من اشرس الداعين للتدخل العسكري في بلادنا بحجة حقوق الانسان والمرأة والمثليين، وكانت من أشرس الداعين للعدوان على سوريا)، بالإضافة الى مؤسسات أخرى كمؤسسة المجتمع المفتوح لصاحبها جورج سورس، أو من دول وحكومات عربية تقوم بالتمويل نيابة عن المنظومة الغربية الاستعمارية لأنها جزء منها ولها مصلحة في استمرارها، كقطر او السعودية او الامارات.
ومثل الزَنّانات، أو الطائرات بدون طيار، فإن ما يسمى المنظمات غير الحكومية هي أيضا أنواع. فبرغم أنها كلها تمثل مصالح المموِل، وتعمل على تنفيذها بنشاط لافت لتبرير استمرار دفع الراتب لما يسمى "نشطاء المجتمع المدني" بالدولار، إلا ان بعضها يعمل على مشاريع صغيرة تحت عناوين ويافطات جذابة مثل "تمكين المرأة"، "حقوق المثليين"، "حقوق الطفل"، "ثقافة الديمقراطية"، "حماية البيئة" الخ، وبالتالي فإنها تعمل على تسهيل اختراق الفكر والثقافة الغربية للمجتمعات غير الغربية في مجالات محددة لتسهيل السيطرة عليها ونهبها لاحقا.
وكما أن هناك مسيرات متعددة الوظائف (تراقب، تصور، وتنفذ مهمات عملياتية، الخ) ويقوم منتجيها حتى بإخفائها عبر جسم خفي (ستيلث) مكلف الثمن، فإن هناك منظمات غير حكومية بوظائف متعددة أو وظائف كبيرة لا يمكن للمكاتب الصغيرة إنجازها. هذا النوع هو الأخطر لأنه يأخذ شكل أحزاب وحركات سياسية، لكن برنامجها الأساسي هو نشر أفكار الممول، والأهم نشر طريقة العمل المسموحة من الممول – هل انتبهتم مثلا أن من ينتقد ضعف النشاط الكفاحي لليسار الفلسطيني، كما يفعل المسار، لا يقوم بأي نشاط كفاحي أصلا، وإنما يعمل على تعميم ظاهرة الاحتجاج التي يعتبرها الممول الغربي "حضارية"، كالمسيرات والمظاهرات المرخصة فقط. لكن ارتفاع الصوت ضد من ينشط كفاحيا، حتى ولو بمستوى أقل من المأمول والمطلوب، هدفه تشويه الظاهرة كلها لحساب المسيرات والمظاهرات المرخصة والبيانات.
ما يقوم به المسار البديل منذ إعلان انطلاقته بمظاهرة مرخصة من مدريد (حتى حركة فتح التي ينتقدها المسار أعلنت انطلاقتها بعمل كفاحي وببيان من الوطن العربي) هو لعب دور في تنفيذ توجه سياسي وثقافي يمثل بعض أركان المشروع الغربي والرجعي العربي في المنطقة، أشرف على إدارته منذ البداية عضو الكنيست عزمي بشارة. جوهر هذا المشروع هو اختراق الوعي السياسي والثقافة الكفاحية لمجتمعاتنا والتي تقف حجر عثرة أمامهم وتشكيلها وفق مصالح الممول الخارجي.
كانت المحاولة الأولى هي ما أطلق عليه بشارة حينها "هيئة الدفاع عن الثوابت"، والتي فشلت بعد انكشاف حقيقة فتى الموساد، ودوره في تدمير وخراب العديد من البلدان العربية. اللافت أن هذه الهيئة (ورغم حسن نية العديد من الذين خدعوا بكلام المفكر الصهيوني وانتموا إليها حينها) كانت تشبه لحد كبير صيغة المسار البديل ونهجها – بيانات ومسيرات ومظاهرات ومزايدات وتخوين من لا يقاوم على ذوقهم، وكفى الله المؤمنين شر القتال.
لكن، يبدو أن بشارة تعلم جيدا من التجربة. فانكشاف حقيقته، قاد لانهيار كل المؤسسات التي أشرف عليها مباشرة، أو كان على علاقة بها (لا يسمع أحد بهيئة الدفاع عن الثوابت). فوجوده في هذه المؤسسات أصلا، وحتى نجاحها كان يعتمد أساسا على الصورة التي رسمتها له الدعاية كمفكر عبقري، وليس اعتمادا على طبيعة المشروع الذي كان يُنَظِر له (كثيرون انتموا لهيئة الدفاع عن الثوابت فقط لأن بشارة كان يقودها). لهذا، تبنى بشارة صيغة جديدة للعمل تناسب المرحلة الجديدة والاسم المحروق والمشبوه، وكانت الزَنّانَة، أو الطائرة بدون طيار هي النموذج الجديد. هو يمول ويشرف ويتحكم عن بعد، وقادة المسار، كما قادة مؤسسات أخرى ومواقع إعلامية عديدة، ينفذون، وحتى ينفون أي علاقة معه، وربما يشتمونه إذا اقتضت الضرورة.
اللافت أن هذه المؤسسات، كالمسار المُسَيَر، تعتمد نفس طريقة عزمي بشارة القديمة، فتقوم بتلميع شخصية ما وتضخيمها بالدعاية حتى ينتسب بعض ذوي النية الحسنة والمخدوعين. هكذا أصبح من يعلن عن مظاهرة مرخصة في اوروبا أكثر حضورا من الفدائي الحقيقي. هذا ليس مفاجئا طبعا. فلقد فعلها عزمي بشارة من قبل حين أقنع الناس، بالكثير من الدعاية الممولة، أن عضو الكنيست الصهيوني الذي اقسم يمين الحفاظ على الدولة اليهودية لن يحرر فلسطين فقط، بل وسيقود الثورة في كل الوطن العربي.
اللافت أيضا أن هذه المشاريع تتزايد وتنتشر حين يزداد العمل الكفاحي في فلسطين، كما أشار الدكتور عادل سمارة، وكأن الهدف استثمار التضحيات الهائلة للأبطال والمقاومين في مشاريع بأهداف مناقضة لتضحياتهم. فمنذ المخاضات الأولى للانتفاضة الراهنة تزايدت الدعوات لمشاريع جديدة، ليس المسار الا احدها، هدفها حرف البوصلة وتبديد الزخم المقاوم لصالح مشاريعهم.
يعرف أهل غزة جيدا خطورة الاف ١٦ وغيرها من طائرات العدو التي يقودها طيارون صهاينة تم تدريبهم على القتل، لكنهم يعرفون الزَنّانات أيضا ويعرفون خطرها جيدا ويعرفون أن من يقودها أيضا ضباط صهاينة من غرف عمليات بعيدة، وإن سألت أهل غزة سيقولون لك أن إسقاط الزَنّانات يعادل بأهميته إسقاط الاف ١٦.
عن مشروع عزمي بشارة الحقيقي، وما هو دور المسار البديل، كزَنّانَة لبشارة، فيه قريبا.. يتبع.