من خلال ربط علاقاتها الخارجية بسياسات الولايات المتحدة الأمريكية , لم تفوت الدول الغربية الفرص لفَرضِ المزيد من العقوبات على تركيا , سواء كان ذلك يتعلق بنشاط عملياتها الإستكشافية النفطية والغازية أو أعمال الحفر في مياه شرق البحر الأبيض المتوسط ، أو بسبب حصولها على أنظمة صواريخ أرض - جو الروسية ، وبكل ما يتعلق بتقاربها مع روسيا , في سعي حثيث إلى تضييق الخناق على الرئيس التركي رجب طيب إردوغان , ولتضخيم حجم تأثير التيارات التركية المعارضة التي تسير في الركب الامريكي , في وقتٍ تقترب فيه الإنتخابات الرئاسية التركية أكثر فأكثر.
وقد ساهم السعي التركي للحصول على العضوية الكاملة في منظمة شنغهاي , في تأجيج الإستياء الأوروبي , وبإظهار مدى تعفن "القيم" والشعارات "الديمقراطية" التي يرفعها وينادي بها الأوروبيين , وينكرون على تركيا حقوقها بإختيار طريقها وعلاقاتها ومصيرها .
وفي هذا الصدد , يحاول الأوروبيون المساهمة في كبح حماسة أنقرة واستقلال سياساتها عن واشنطن وبروكسل ، فقد وسّع الإتحاد الأوروبي عقوباته ضد المسؤولين ورجال الأعمال الأتراك ، ومنع بعضهم من دخول الإتحاد الأوروبي , وجمّد الأصول الأوروبية للبعض الاّخر , وسط الدعوات الألمانية لمراجعة دور أنقرة في الشؤون الأوروبية ، ولتحليل السياسة التركية في ليبيا وسوريا وشرق البحر المتوسط وناغورنو كاراباخ ,
وابدى الإئتلاف الحاكم في ألمانيا حماسةً خاصة , للدفاع رؤى ومصالح الولايات المتحدة في تركيا , لفرض "تدابير إقتصادية على تركيا" , على إعتبار أن تعميق أنقرة لتعاونها مع روسيا والصين عبر منظمة شنغهاي للتعاون , هو أمر "غير مقبول" به من قبل حلفاء تركيا الغربيين في الناتو , ناهيك عن المزاعم وإتهام تركيا بعرقلة جهود الناتو في مراقبة حظر الأسلحة المفروض على ليبيا ، وحفر آبار النفط والغاز في المنطقة الإقتصادية الخالصة لليونان.
كما تضمنت عقوبات الإتحاد الأوروبي الجديدة على تركيا , رفض منح تأشيرات الشنغن للمواطنين الأتراك , وتأخير بعضها الاّخر , من خلال تشديد الإجراءات وتعقيد الثبوتيات , وسط إتهام وزير الخارجية التركي الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة , "بتعمد تعقيد وتأخير" هذه الإجراءات.. كذلك القيود التي فرضتها الدول الغربية مؤخراً على قطاع الطيران المدني الجوي الروسي – التركي , بما ألحق بالسياحة التركية أضراراً جسيمة , ناهيك عن زيادة الضغوط الأمريكية – الأوروبية على البنوك التركية التي تدعم نظام الدفع "مير" الروسي , الذي ترى فيه واشنطن وسيلةً تساعد روسيا على التهرب من العقوبات المالية المفروضة عليها.
مهما تكن علاقة أنقرة بواشنطن وبروكسل , وعلاقتها المعقدة مع روسيا , يبدو أن الرئيس فلاديمير بوتين يرى ضرورة الحفاظ وتعميق علاقات بلاده بأنقرة , والتي من شأنها تسريع تدهور وتفكك الغرب , وإعادة توجيه المجتمع الدولي نحو علاقة دولية عادلة متعددة الأقطاب , على حساب الولايات المتحدة وحلفائها , ولم يوقف سعيه لإستمالة تركيا , واقتناص الفرص لجعل أرجحتها تصب في صالح بلاده أولاً وتركيا بالدرجة الثانية.
ومع تزايد الضغوط والعقوبات الغربية على تركيا , وبهدف تدمير وتعطيل الإمدادات الروسية من الغاز, التي يقاتل الأمريكيين والإوروبيين لإيقافها والإستغناء عنها , وجد الرئيس بوتين الفرصة ليفاجئ الأتراك والأصدقاء والأعداء , بإعلانه في 12 تشرين الأول/أوكتوبر , اقتراحه لإنشاء مركزٍ دولي للغاز في تركيا , خصوصاً بعد الهجمات الإرهابية والإعتداء على أنابيب نورد ستريم 1و2 في بحر البلطيق , بعدما ثبت أن خطوط الأنابيب البحرية "ليست اّمنة" .
من الواضح أن موسكو تنظر إلى مشروع "المركز التركي للغاز" من الناحية الأمنية , ومن خلال مقارنة نفوذها في بحر البلطيق بالبحر الأسود , والسيطرة العسكرية والإستخبارية الروسية والتركية , بالإضافة لسيطرة أنقرة المباشرة على حركة وتحركات ومرور السفن العسكرية عبر مضيقي البوسفور والدردنيل.
حتى الاّن , يبدو أن أوروبا تعيش صدمات عديدة , لم تكن تتوقعها قبل أن تقرر مواجهة موسكو والرئيس بوتين , ورفضها الحصول على الغاز الروسي ومحاولاتها الإستغناء عنه , وقضت على نفسها بعدما قرر الرئيس بوتين اعتماد تركيا كمركز للغاز الروسي , عوضاً عن ألمانيا والنمسا , وبولندا التي لا زالت تحلم به , ولم يخطر ببالها أن تقوم روسيا وتركيا بتقسيم أوروبا إلى شطرين , وبفسح المجال أمام إيران الحليف الإستراتيجي لكلا البلدين بمساعدة روسيا على حل مشاكل منطقة القوقاز على ضخامة رقعة إتساعها وامتدادها .
لقد شكل إقتراح الرئيس الروسي مفاجئةً حقيقية لتركيا , وسارع الرئيس التركي لتوجيه حكومته بالعمل الفوري والإنتهاء من تمديد شبكة الأنابيب اللازمة , بأسرع وقتٍ ممكن , ومن المرجح وفق الإعلام التركي , أن تتم إقامة هذا المركز في مقاطعة تراقيا التركية , التي تقع في الجزء الأوروبي من تركيا , وعلى الحدود اليونانية والبلغارية , في خطوةٍ من شأنها إقناع الدول الأوروبية ، الراغبة بتخفيض اعتمادها على موسكو , بشراء الغاز من مركز الغاز الجديد في تركيا.. في وقتٍ يبدو فيه من السهولة بمكان بالنسبة لروسيا استكمال بناء الخطوط الواصلة إلى تركيا , فالبنى التحتية البرية للمشروع تم إنشاؤها منذ العام 2014 , ومن الممكن استكمال البنى التحتية البحرية الضرورية في غضون عام أو عامين.
وفي هذا الصدد , وبمجرد الإعلان عن المشروع الجديد , سارعت تركيا لكسب الوقت وجلب الإستثمارات , واستغلال "قمة إسطنبول الإقتصادية" , التي ستعقد يومي 8 و9 كانون الأول /ديسمبر, والدعوة لعقد لقاءٍ يجمع وزير الطاقة الروسي بنظيره الألماني , وبدعوة الشركات الأجنبية وبالتأكيد الشركات الروسية أيضاً , حيث يرى وزير الطاقة الروسي نيكولاي شولغينوف إن: "عقود الغاز طويلة الأجل هي أحد الحلول لجذب استثمارات في مشروعات الغاز" ، وبأنها تمثّل "إحدى دعائم استقرار سوق الغاز العالمية".
يبدو أن الذكاء الروسي تفوق على الخبث الأمريكي الأوروبي , وتحمل بعض الإزعاج والأذى التركي المحدود لروسيا , وتعاطى مع العلاقة الجدلية مع أنقرة , وحولها إلى شراكة تتجذر موثوقيتها شيئاً فشيئاً , بالإعتماد على المصالح الإقتصادية والجيوسياسية , والتي لا بد أن يستفيد منها كلا الطرفين , وخصوصاً الجانب التركي , وهو الذي يعيش أزماته الاقتصادية , وهمومه الداخلية وتعقيداتها , ومدى تأثيرها على نتائج الإنتخابات الرئاسية لصالح الرئيس رجب طيب إردوغان , الذي يأمل بالنجاة والفوز بها , وأن يحالفه الحظ بالمزيد من تعثر واشنطن وبروكسل , للحد من العراقيل والمفاجئات والألاعيب التي قد يلجأؤون إليها لإقصائه وإسقاطه عبر الإنتخابات.
في حين تتوقع موسكو , استمرار تراجع مهاجميها والمعتدين على أمنها القومي , وخطوطها الحمراء , وتراجع إقتصادياتهم , الأمر الذي سيؤثر على ثقل وهيمنة ألمانيا على الإتحاد الأوروبي , الذي سيعاني بدوره من تراجع حجوم إعاناته التي تمنحه القدرة على فرض إملاءاته على دول الإتحاد الأقل إنتاجاً والأكثر عوزاً , في ظل العواصف الإقتصادية المتوقعة والقادمة , وسطوة "سيدٍ" أمريكي بات يستخدم السوط أكثر من الجزرة.
ميشيل كلاغاصي