شكلت القدس وما تزال الجوهر واللب الخالص للمشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، على الرغم من ان دولة الكيان اقيمت على مناطق وجغرافيا فلسطينية خارج نطاق ((يهودا والسامرة)) وقد واجه عرابو الحركة الصهيونية وعلى راسهم دافيد بنغوريون الذي اتهمه عتاة المستوطنين بالخيانة لانه قبل بقرار التقسيم واقامة الدولة الصهيونية على اراض لا تضم ((يهودا والسامرة)) حيث القى خطابا قال فيه : " ان ما حصلنا عليه ما هو الا مقدمة لاستكمال مشروعنا الهادف الى الاستيلاء على كل فلسطين مما يوفر لدولتنا سبل العيش والبقاء من الماء والموارد الطبيعية الاخرى. والمشروع الصهيوني يعتبر خط سكة الحديد الممتد من درعا في سورية الى معان في جنوب الاردن الحدود الشرقية لدولة الكيان، ونهر الليطاني في لبنان ومنابع نهر الاردن الحدود الشمالية، هذا اذا تجاهلنا وغضينا النظر عن الشعار المكتوب على الكنيست الصهيوني (( حدودك يا اسرائيل من الفرات الى النيل)). ان مشروعا بهذا الوضوح في جغرافيته واجلائيته بتهجير السكان الاصليين بالقوة والمذابح، وتعبيرا عن سياسة ومنهج الاحتلال والاحلال والاجلاء لتوفير الامن والامان للقاعدة العسكرية المتقدمة للاستعمار العالمي في الوطن العربي. قدم عرابو الحركة الصهيونية العالمية مشروعهم على اساس انه الحل لما يسمى " المسألة اليهودية" التي كانت تأرق الدول الاوروبية، وكانوا علمانيين وبراجماتيين بامتياز. وفاعلين ومأثرين في حركة الاشتراكية الدولية وصوروا لها ان " الكيبوتز" نواة المجتمع الاشتراكي، هيأت هذه السياسة الارضية التي جعلت دولا غير استعمارية تعترف بدولة الكيان.
ان اهم العوامل التي ساعدت على ومكنت الحركة الصهيونية من اقامة دولتها على الارض الفلسطينية يمكن ايجازها وبشكل مختصر بالعوامل التالية :
اولا: العامل الدولي الاستعماري الذي اراد غرس قاعدة متقدمة له في منطقتنا للابقاء على الاقليم مجزأ سياسيا ومتخلف اقتصاديا وعاجز عسكريا عن مواجهة هذه الثكنة المتقدمة ومحصلة ذلك ديمومة الهيمنة والسيطرة الاستعمارية. اما العامل الثاني الذي لا يقل اهمية عن العامل الاول ، هو التخلف العام الذي هيمن على العرب طيلة قرون من الحكم العثماني الذي بسط نفوذه وهيمنته على المنطقة بالقوة ومن بعد ذلك من خلال الوكلاء المحليين من زعماء القبائل والعشائر ورجال الدين الذين قدموا السلاطين العثمانيين على انهم الخلفاء المسلمين وان امبراطوريتهم التي يحكمها سلاطين -- لم يعتمر او يحج الى بيت الله اي واحد منهم-- الخلافة العثمانية .
العامل الثالث هي تلك القيادات القبلية والعشائرية التي صنعت منها القوى الاستعمارية انظمة حاكمة طفيلية تستمد قوتها وقوتها من المركز الامبريالي. اما العامل الاخير هو الذي يتعلق بالوضع الذاتي للشعب الفلسطيني والذي لا يمكن فصله عن الوضع العربي العام القائم على العشائرية والقبلية والتخلف وتسليم الامور الى المرجعيات الدينية المتخلفة والعاجزة. كان لاتفاقية سايكس- بيكو ووعد بلفور المشؤوم الاثر العظيم على القيادات الفلسطينية تحت الانتداب البريطاني الاكثر قلقا واضطرابا وخوفا من المستقبل على عكس مثيلاتها في الوطن العربي الذي خضع لنير الاستعمار. ان الوعي الفلسطني المبكر على مشروع الاستعمار الاستيطاني في فلسطين، الذي زادته الهجرة اليهودية الكثيفة ابان الحكم النازي في المانيا، الا ان الوعي لم يخرج القيادات الفلسطينية من شرنقة التخلف والانقسام وقصر الوعي مما جعلها ترا في بريطانيا مرجعية للحلول وفي المؤتمرات ومذكرات الاحتجاج وتقديم العرائض والاضرابات والتظاهر وسيلة للحصول على الاستقلال الوطني. كان محصلة ذلك النهج قيام " دولة اسرائيل" وتقويض الحركات الوطنية الفلسطينية والنكبة التي حلت بشعبنا وحولته من مجتمع كريم يعيش على ارض ووطن الى لاجئين بيوتهم الخيام.
اقدم المركز الامبريالي، قديمه بريطانيا وحديثه امريكا، على تثبيت حكم الانظمة الرجعية العربية ترسيخا لهيمنته وحماية لقاعدته المتقدمة في فلسطين . الا ان عقدي الخمسينات والستينات من القرن العشرين شهدتا تحولات جذرية حيث قامت ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م في مصر وتم تاميم قناة السويس وانقلاب تموز في العراق ١٩٥٨م والوحدة بين مصر وسورية (( الجمهورية العربية المتحدة)) وحركات التحرر في الجزائر واليمن. وضعت هذه الاحداث الكيان الصهيوني امام الاختبار الاول واولى مهماته حيث شارك في العدوان الثلاثي على مصر عقب تاميم قناة السويس. اما الاختبار الثاني والمهمة الثانية التي نجح فيها الكيان بامتياز كانت حرب حزيران ١٩٦٧م والتي تم الاعداد لها من كافة اطراف التحالف الثلاثي (( المركز الاستعماري - الكيان الصهيوني - انظمة الرجعية العربية )) حيث كشفت الوثائق التي رفعت عنها السرية دور الرجعية في وضع قواعدها الجوية وخاصة في ليبيا تحت تصرف سلاح الجو الامريكي والصهيوني لتدمير القواعد الجوية المصرية ومعسكرات الجيش المصري.
احتل جيش الكيان الضفة الغربية ((يهودا والسامرة)) جوهرة المشروع الاستيطاني الصهيوني بالاضافة الى قطاع غزة وسيناء والجولان. بعد مضي اكثر من نصف قرن على ذلك الاحتلال الاستيطاني نجد ان العقل الفلسطيني (( The Palestinian Mind )) الذي يتصدى لهذا الاحتلال يقف على نفس المنصة التي وقف عليها العقل الفلسطيني ابان الانتداب البريطاني على فلسطين. ان قصر الوعي الفلسطيني الذي عجز في السابق عن الربط الجدلي بين الحركة الصهيونية والرجعية العربية اللتان تتقاسمان الادوار والمهمات لخدمة المركز الامبريالي الراعي لهما. كان ذلك مبرر في الماضي حيث الظروف الذاتية والثقافة السياسية الثورية لم تكن متاحة. اما في وضعنا الراهن وبعد مضي اكثر من قرن من الزمان على الصراع الوجودي مع الكيان، وانتصار كل حركات التحرر الوطني على المحتل الاجنبي والاستعمار الاستيطاني في اسيا وافريقيا وامريكا الجنوبية، نجد انفسنا كشعب امام السؤال التالي لماذا لم ينجز الشعب الفلسطيني اهدافه في الخلاص والتحرر؟ والجواب واضح لان العقل الفلسطيني ما زال عاجزا عن الربط الجدلي بين قوى التحالف الثلاثي، لانه ما زال النسخة الكربونية عن العقل الفلسطيني الذي ناضل ضد الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية مع متغير واحد وهو استبدال العشيرة والقبيلة بالفصيل (( عشاير وحمايل)) و (( حركات وفصائل))بدل الحسينية والنشاشيبية والفتحاوية والحمساوية ومن خلفهم معظم الجمهور الفلسطيني. وعوضا عن تقديم العرائض والاحتجاجات والشكاوي للمندوب السامي البريطاني اصبحنا نقدم هذه العرائض والاحتجاجات والشكاوي لهيئة الامم المتحدة والجامعة العربية والمحكمة الدولية .... الخ
ما لم يخضع العقل الفلسطيني لعملية عصف ذهني ((Brain Storming)) يشرف عليها انتليجنسيا ذات ثقافة ثورية عابرة لكل الحواجز الموروثة سنبقى على هذا الحال من الارتجال والتخبط وسيبقى نضالنا هبات موسمية من انتفاضة حجارة وانتفاضة اقصى الى سيف قدس وقلعة جنين واسود عرين في الوقت الذي نحتاج فيه الى عمل يومي متواصل بلا انقطاع ومتطور في الاسلوب والاداء. ويجب ان نتوقف عن الجري وراء اوهام المشاريع المطروحة علينا لانها مشاريع تصفوية تحمل عناوين مختلفة. ما اشبه اليوم بالبارحة حيث ثورة الستة وثلاثين تم اجهاضها حين قبلنا بلجنة " بيل الملكية" في اواسط عام ١٩٣٧م وانتشرت في ذلك الوقت اغنية شعبية مطلعها (( دبرها يا مستر بيل بلكن (( يمكن)) على يدك بتنحل)). اما معركة سيف القدس وسيفها فقد انتهت بتسليم الامور الى مصر واصبحت من الماضي الذي نتغنى به وتحول الى شعار ليس الا. اما القدس الان فهي حبلى بالصرح الصهيوني وجرحها ما زال ينزف ولم يندمل ولا نجد احدا يضمده.
فيا قدس يا عروسة المدائن
ارخي ثيابك فالاحشاء تنفطر
وضعي حملك الكاذب واغرسي اصبعك في اعين المطبعين
الذين يصدق قول الشاعر فيهم
ما زلنا نتوضأ بالذل ونمسح بالخرقة حد السيف
ما زلنا نتحجج ببرد الشتاء وحر الصيف
يا قدس لقد نبت كل سيوف العرب وحد سيفك يا فلسطين ما نبا
وانطفات اضواء المصابيح
الا ضوء مشكاتك ما انطفا.
م/ زياد ابو الرجا