المطاعم مزدحمة... رغم الفقر المقنّع المنتشر بين اللبنانيين...
ازدحام السير لا يطاق، رغم رفع الدعم، وسعر البنزين الفلكي...
لا يتكل معظم اللبنانيين على الرواتب الهزيلة... هناك دوما مصدر ما... هناك قطبة مخفية...
يتحدث البعض عن دكتور الجامعة الذي استقال ليعمل ناطورا في البناء الذي يسكنه!
وفي المقابل ترفض معلمة خريجة مدارس النخب راتبا من ثلاثة ملايين ليرة واربع مائة دولار اميركي لأنها ببساطة تستطيع جني حوالي ٨٠٠ دولار من الدروس الخصوصية التي تعطيها لأبناء طبقة العشرة في المائة ممن تزداد أرباحهم نتيجة هذه الحرب الاقتصادية الدائرة في لبنان...
ارتفاع الأسعار يفوق نسبة التضخم... دون أية بوادر انفجار اجتماعي يهدد به الخبراء وفقا للمنطق العلمي!
لقد تجاوز صبر اللبنانيين كل منطق حتى درجة إنكار وجود أزمة بالفعل...
بالتأكيد هناك ضحايا...
بالتأكيد هناك خاسرون...
لكن الأغلبية تتدبر أمورها بطريقة أو بأخرى...
معظم اللبنانيين يسرقون بعضهم بعضا، وجزء بسيط من اللبنانيين قد لا يتجاوز العشرة بالمئة يسرق الجميع دون تمييز...
السوق يعالج نفسه بنفسه واللبنانيون يتأقلمون مع الوضع...
نسبة المساكين ارتفعت كثيرا، لكنهم يتدبرون الأمر... على الأقل، هذا ما يبدو...
يتحدث الدكتور محمود جباعي بتفاؤل عن المستقبل...
الطبقة الحاكمة نجحت بفضل رياض سلامة على توزيع الخسائر بنسبة مئة في المئة على الأغلبية العظمى من اللبنانيين وصفر في المئة على الطبقات العليا من المجتمع؛ لا بل يمكن القول إن هؤلاء ازدادت أرباحهم أضعافاً مضاعفة بفضل سيطرتهم من خلف الستار على سوق الدولار وعلى منصات الصيرفة المختلفة وعلى التجارة وعلى استمرار القدرة على تحويل هذه الأرباح ليس فقط إلى الخارج، بل حتى إلى شراء في الداخل يجعل منهم أغنياء الحرب الاقتصادية القدامى/ الجدد...
يعود بعض المغتربين من لبنان بفكرة أن لا أزمة في هذا البلد...
ما يراه هؤلاء المغتربون هو طغيان حالة من الاكتفاء الظاهر، بينما يعتكف الجياع في البيوت المهترئة كما اهتراء هذا الاقتصاد المزيف القائم على الغش والخداع...
من المؤكد أن الوضع اللبناني يحتاج إلى أكثر من مجرد تحليل اقتصادي علمي...
يحتاج هذا الوضع إلى تحليل نفسي يستطيع أن يعرف كيف يرد اللبناني على السرقة التي يتعرض لها بسرقة ما يمكنه سرقته ممن يمكنه سرقتهم ممن لا حول لهم ولا قوة...
تصل حالة الإنكار درجة نفي وجود فقراء في لبنان...
ثمن الكثير من البضائع يفوق أو يساوي الثمن في المانيا مثلاً، رغم ان ال TVA في المانيا هي ضعف تلك التي في لبنان، والضرائب في المانيا هي أيضاً أضعاف ما هي في لبنان، إضافة إلى أن الالتزام الضريبي في لبنان شبه مفقود بينما هو شبه كامل في ألمانيا...
رغم كل هذا، الاسعار في لبنان هي أعلى...
حتى المعاينة الطبية في لبنان، هي أكثر من تلك التي في ألمانيا رغم أن الأطباء في المانيا يدفعون ضرائب ولا يحق للطبيب أخذ مقابل عند المراجعة على نفس المرض ضمن فترة زمنية من ثلاثة أشهر حتى لو عاد المريض إلى المراجعة عشر مرات...
فواتير الكهرباء هي الأعلى بفضل مافيا الكهرباء المؤلفة من مافيا المولدات، ومافيا الفيول، ومافيا الفساد الإداري والسلطوي في البلد...
منذ سنين والكل يتحدث عن الإنهيار وقرب الاصطدام الكبير بالقعر، بمن في ذلك كاتب هذه الأسطر...
لم يحصل الإنهيار...
ولا أفق لوجود أي قعر من الأساس...
يتكيف اللبنانيون مع كل واقع يستجد...
طبعا هناك حالات الكثير من الأفراد والعائلات التي تعاني...
لكن الاقتصاد في لبنان لا يزال صامداً... هو ليس اقتصادا بالمعني العلمي للأمور...
هو اقتصاد الفوضى الخلاقة القائمة على السرقات المتبادلة بين مجموعة كبيرة من البشر لا اخلاق لديها ولا قيم...
الكل يسرق من الكل...
ربما يوجد بعض المعاناة في القطاع الزراعي أو في الصناعة...
لكن مافيا التجار لا تزال بحالة جيدة؛ لا بل إن ارباح هؤلاء التجار بشكل عام، والمستوردين بشكل خاص هي في ارتفاع متواصل، ويقوم هؤلاء بتحويل أرباحهم بشكل متواصل أيضاً إلى قوة مادية لهم ومراكز نفوذ وسلطة...
في السابق كان التاجر يربح من البيع والشراء... اليوم، التاجر يربح بالإضافة إلى ذلك، من المضاربة المالية عبر اللعب بين اسعار الدولار المختلفة...
تستفيد من هذه المضاربات، فئات واسعة من الشعب اللبناني، بما في ذلك الموظفون الفقراء...
يكتفي الفقير بربح حفنة من مئات آلاف الليرات من هذه المضاربة، بينما يغرف حيتان المال ملايين الدولارات بالمجرفة...
في اللغة اللبنانية الدارجة، يطلق على هؤلاء لقب الشاطر أو "الحربوق"...
مهندس كل هذه العمليات الاقتصادية هو ليس شخص رياض سلامة فقط...
لقد تحول رياض سلامة من مجرد فرد واحد الى طبقة كاملة من المهندسين الاقتصاديين...
لم ينفع كل صراخ شربل نحاس، ولا نفعت تحليلات جاد غصن الهادئة في فتح أعين اللبنانيين... ليس لأن اللبناني عاجز، بل لأن اللبناني لا يريد فتح عينيه...
من أجل بناء هيكل سلطة لهذا النظام العجيب، يدور صراع عنيف على رئاسة الجمهورية...
يدور هذا الصراع بين رمزين لا ثالث لهما...
سليمان فرنجية وجوزيف عون...
الأول واضح جدا في تمثيل الواقع اللبناني كما هو... ويمثل استمرارية النظام بشكل من الأشكال...
والثاني يختبئ خلف غموض لا يطمئن على الإطلاق... يكفي أن من طرح ويطرح اسم قائد الجيش للرئاسة هم نفس تلك القوى التي شنت الحرب الاقتصادية على لبنان...
عندما تفاهم جمال عبد الناصر مع الأميركيين على وصول قائد الجيش الجنرال فؤاد شهاب إلى السلطة، كان الطرفان يريدان الحفاظ على وضع لبنان كما هو مع بعض الرتوش الإصلاحية...
جاء فؤاد شهاب وقام بورشة من هذه الاصلاحات التي نقلت لبنان من العالم الثالث المتخلف إلى العالم الثالث المقبول نوعا ما...
اليوم تختلف الأوضاع...
هناك محوران يتقاتلان في المنطقة...
كادت اميركا أن تهزم بعدما فشلت في قلب النظام في سوريا...
كان المحور الإيراني يحقق الانتصار تلو الانتصار...
خرقت روسيا قوانين الحرب بالوكالة يوم دخلت مباشرة في الصراع على سوريا ومنعت اميركا من الانتصار عبر الوكلاء على اختلافهم...
قررت اميركا تأجيل المواجهة مع الصين ودخلت بدورها مباشرة في الصراع على سوريا...
تبين لها أن اسنان بوتين قد عادت إلى النمو...
سارعت إلى زيادة الحصار على روسيا للإطباق عليها... وكان الأوروبيون خير حمار للركوب...
حصار روسيا وحصار إيران يعني تلقائيا حصار سوريا وحصار لبنان...
الصفعة التي تلقتها اميركا في سوريا كانت مؤلمة جدا، لكنها غير قاتلة...
انسحبت من أفغانستان كما كانت انسحبت يوما من فيتنام...
لكنها لم تواجه في سوريا ولبنان ما واجهته في فيتنام وافغانستان...
قوى الممانعة في لبنان لم تنبر لقتال الأميركيين بنفس الشراسة...
لذلك قررت اميركا ليس فقط البقاء هنا، بل حتى تدمير هذين البلدين إذا ما عجزت عن فرض الطاعة...
أداة اميركا لفرض ما تريد في لبنان، هو الجيش الذي تقوم بتدريبه وتسليحه حتى يتمكن من أن يكون العصى بيدها...
هل يرفض جوزيف عون هذا!؟
هل يقدر جوزيف عون على رفض الطاعة لأميركا، حتى لو أراد...
هل تقبل اميركا بأنصاف الحلول؟
الشك كبير جدا إلى درجة الجزم بأن جوزيف عون لن يكون فؤاد شهاب اخر كما يتوهم البعض...
قد لا يكون جوزيف عون ميشال سليمان آخر... لكن كل الدلائل تشير إلى أنه لن يكون فؤاد شهاب...
بالإضافة الى اميركا، يطرح الخليج أيضاً اسم جوزيف عون...
أنه نفس الخليج الذي حاصر لبنان وعمل على تدميره...
الخليج الذي اعتقل رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري واجبره على إذاعة بيان كاد يؤدي إلى حرب أهلية...
الخليج الذي افتعل مشكلة جورج قرداحي مع كل التفاهة التي تختزن...
الخليج الذي عاد مرة أخرى إلى تسليح اليمين المسيحي المتمثل اليوم بالقوات اللبنانية على امل خلق فتنة تؤدي إلى حرب أهلية بعدما عجز حصاره المالي والاقتصادي عن هز شباك حزب الله...
هذا الخليج يريد جوزيف عون ليس من أجل مساعدة لبنان، بل من أجل مجابهة إيران في لبنان...
السعودية التي أحرقت اليمن بعدة مئات من المليارات من الدولار، وقطر التي أحرقت سوريا بعدة مئات من المليارات من الدولارات وصرفت لأجل المونديال أكثر من مئتي مليار دولار تريدان جوزيف عون رئيساً...
لماذا؟
هل هبط فجأة وحي الأخوة العربية؟
لا، التخبط الروسي في أوكرانيا، والأوضاع المضطربة في إيران...
كل هذا يعني أن في الإمكان ضرب المحور المعادي للغرب في هذا البلد...
عندما خرج السيد نصرالله يتحدث عن مئة ألف مقاتل، تدفق المال والسلاح على سمير جعجع الذي تقول اوساطه اليوم أنه بات يملك جيشا من سبعين ألف مقاتل...
قد يرفض جوزيف عون ضرب المقاومة في لبنان، كما فعل قبله إميل لحود عندما رفض أوامر حكومة رفيق الحريري بالذهاب إلى الجنوب وضرب المقاومة...
لكن ماذا سوف يكون موقف جوزيف عون عندما تحصل طيونة أخرى وتبدأ الحرب الأهلية من جديد...
سريعا ما سوف يتحول وجه هذه الحرب الى حرب شيعية مسيحية...
سوف يكون جوزيف عون حصان طروادة للتدخل الدولي...
سوف يأتي الغرب تحت ذريعة إنقاذ المسيحيين...
سوف يأتي الخليج ومعه غلمان العربان للحديث عن الظلم الواقع على السُنّة...
من يعرف، قد تتدخل اسرائيل بناء على طلب دروز فلسطين تحت ذريعة إنقاذ دروز لبنان...
الذي يهدد مدينة جنين ويعمل حرس حدود لدولة الاحتلال قادر على اكثر من مجرد خيانة واحدة في جبهة واحدة...
إذا كان انتخاب سليمان فرنجية يعني استمرار وضع الستاتيكو فإن انتخاب جوزيف عون يحمل أكثر من مجرد كسر هذا الستاتيكو... انتخاب عون يعني ربط لبنان نهائيا بالصراع الروسي الأميركي والصراع الإيراني مع الغرب ومع الخليج...
حتى الآن، ليس في الأفق مرشح آخر...
خير من يمثل الستاتيكو بانتظار تبلور الأمور على صعيد إيران وروسيا والغرب والخليج هو سليمان فرنجية...
جوزيف عون قد يقربنا أكثر نحو الحل في حال انفراج الأوضاع بين هذه الأطراف لكنه سوف يكون طرفاً مؤذيا جداً في حال زيادة التأزم الدولي والخليجي...
أما التسوية الكبرى التي يتحدث عنها الكاتب جوني منير فهي لن تكون فقط ضمن إطار الطائف... التعديلات الطفيفة التي حصلت في الدوحة سوف تستكمل الخطى...
أمام الثنائي الشيعي حل من إثنين لا ثالث لهما على ما يبدو...
إما الذهاب الى دولة وطنية مدنية تحدد اسرائيل عدوا وجوديا للبنان ولكل اللبنانيين في تفاهم ينهي السيطرة الطائفية والمذهبية إلى الابد كما حصل في أوروبا مع معاهدة ويستفاليا التي أنهت بشكل عام الصراع الكاثوليكي البروتستانتي وساعدت على نشوء الدول الوطنية...
وإما فرض مثالثة مع إعادة تقاسم نفوذ يتعادل فيها السُنّة والشيعة والموارنة بانتظار أزمة جديدة خلال عقدين أو ثلاثة من السنين تعود وتطلب إعادة التعديل لتغير الديموغرافيا...
إذا كان جنود وطنية الدولة معروفون ويحمل لواءهم حزب الله، فإن جنود مدنية الدولة لا يزالون مجهولين وعلى الأقل غير واضحين...
حركة أمل التي حمل السيد موسى شعار مدنية الدولة في لبنان، دخلت في بازار الطوائف وإن كانت ترسل الإشارات إلى الاستعداد للعودة وتبني هذا الشعار...
التيار العوني الذي حمل شعار العلمانية الذي يؤمن مدنية الدولة غرق في شبر ماء، وإنزلق الى معسكر القوى الطائفية البغيض وبات اسوأ من فاشية موسوليني...
المسيحيون بشكل عام كما الطوائف الصغرى من دروز وعلويين وأرثوذكس...
هؤلاء جميعا، مصلحتهم إقامة الدولة المدنية بكل تأكيد لمنع التسلط الذي تمارسه عليهم الطوائف الكبرى...
هنا السؤال الكبير...
من سوف يحمل لواء القتال من أجل هذه العلمانية في وجه القوى الطائفية البغيضة؟
مقدمة سمر ابو خليل أمس في استقبال النائب باقرادونيان، كانت أكثر من مؤلمة وتعبر تعبيرا صارخا عن آمال كل اللبنانيين البشر الذين يخضعون لسلطة حيوانات الطوائف...
من سوف يفرض لبنان السلام الذي لن يكون سوى عبر الدولة المدنية؟
هنا السؤال الكبير الذي لا جواب عليه حتى اليوم!!!
حليم خاتون