خضر رسلان
عرفت العصور التي تعاقبت عبر السنين فنون الإدارة والسياسة وكانت المجتمعات منفتحة على كل مَن حولها من حضارات، فالفرس والروم و«العرب» واليونان والهنود والمصريون القدماء وغيرهم، لم يتحرجوا من الأخذ والتأثر المتبادل. فإذا تأمّلنا كتابات الرواد ومفكري السياسة وفلاسفتها على امتداد العصور، وجدنا أنهم لم يتركوا شيئاً في شؤون الإدارة والحكم وغيرها إلا وتناولوها بالبحث والدراسة والتقييم وترجموها نظريات أغنت البشرية وساهمت في الارتقاء الحضاري على مختلف الأصعدة بحيث انعكست آثارها على حركة المجتمع الإنساني بدءاً من المدينة الفاضلة التي حلم بها أفلاطون وهي مدينة خيالية يسكنها أُناس طيبون يعيشون فيها في وئام وسلام لا يعرفون فيها الغلّ ولا الحسد، مروراً بابن خلدون الرائد في علم الاجتماع والذي أدرك أنّ الغاية من دراسة الظواهر الاجتماعية استخلاص القوانين المعبرة عنها، وهي على حدّ قوله ليست خاضعة لمزاجية البشر، ولا للمصادفات، بل إنّ لها عللاً، وأسباباً، ويعود ذلك لخضوع المجتمع لقوانين تنظمه، وتدير شؤونه وصولاً الى فكر الأنوار ودوره في قيام الثورة الفرنسية التي شكلت نقطة تحوّل أساسية في التاريخ الفرنسي والأوروبي وفي إقرار الديمقراطية وحقوق الإنسان.
لبنان … ومفكرو الأنوار
إذا كانت الحركة الفكرية التي سُمّيت فلسفة الأنوار، قد نشرت أفكاراً جديدة بواسطة نخبة من زعمائها ساهموا في انتشار الوعي السياسي والتمهيد للثورة الفرنسية ويتقدّمهم جان جاك روسو الذي ركز على الحرية والمساواة، وشارل مونتيسكيو الذي طالب بفصل السلطات، وفرنسوا فولتير الذي انتقد التفاوت الطبقي، فإنّ الكيان اللبناني الوليد قد ساهم منظروه بوضع الأسس التي تساهم في إثارة الفتن والحروب الأهلية بين فترة وأخرى… وإذا كان روسو ركز على الحرية والمساواة فإنّ نظراءه اللبنانيين ابتدعوا مقابل مفهوم الحرية نظرية قوة لبنان في ضعفه ومقابل المساواة نظاماً طائفياً يخضع للمحاصصة وموظفين محميّين بالخطوط الحمراء حتى وانْ فعلوا الموبقات!
أما شارل مونتيسكيو الذي طالب بفصل السلطات والذي معناه عدم التداخل في الصلاحيات فقد طبقها أرباب النظام اللبناني بحذافيرها اللغوية من خلال الفصل التامّ وإطباق كلّ طائفة عليها، وفضلاً عن ذلك لقد استطاع مفكرو النظام اللبناني تجريد فرنسوا فولتير من نظريته التي انتقدت التفاوت الطبقي، حيث استطاعوا ابتداع نظرية توزيع الثروة ومنحها على صورة وكالات حصرية واحتكارية وكارتيلات مصرفية ومالية، وهذا مما يؤدّي بالضرورة الى زيادة الفوارق الطبقية بين المواطنين، وصحيح انّ مفكري لبنان أسقطوا نظرية فولتير أحد أركان مفكري الأنوار إلا أنّ الهرطقة التي أنتجها بعض الجهابذة اللبنانيين والتي أجمعوا على تسميتها نظرية الاتهام في السياسة! استطاع مطلقوها التفوّق على كلّ من سبقهم وتبناها منظرون ورجال سياسة ودين وإعلاميين منتشرون على منصات الإعلام الرقمي جعلوا من هذه الهرطقة أداة لاتهام أطراف محدّدة وتحميلها مسؤولية أحداث جسام كاغتيال الرئيس الحريري او انفجار مرفأ بيروت دون دليل او برهان ودون ايّ اكتراث لتداعيات ذلك على السلم الأهلي والوئام الوطني، فضلاً عن العمل على استدراج التدخلات الأجنبية كما جرى قبل أيام على اثر سقوط ضحايا من جنود الأمم المتحدة حينما تنطح عدد من الجهابذة المصطادين في الماء العكر الى تحميل جهة محدّدة تداعيات ما حدث انسجاماً مع مندرجات المنتج اللبناني الذي أسقطت إبداعاته كلّ أفكار الفلاسفة ونظريات علم الاجتماع السياسي بحيث أصبحت نظرية الاتهام السياسي درة المفكرين والجهابذة اللبنانيين وهي مرشحة لكي تصبح أداة تضع حلولاً لمعضلات مستعصية وتوترات في العديد من بلاد العالم، فالرئيس بايدن يمكن له إعادة ترتيب علاقاته مع الأمير محمد بن سلمان وإقراره بانّ اتهامه في قتل الصحافي السعودي المعارض جمال خاشفجي كان اتهاماً سياسياً، ويمكن أيضاً للرئيس الأميركي ان يعتبر انّ اتهامانه ضدّ الرئيس بوتين كانت اتهامات في السياسة، كما يمكن ان تنجح مساعي الرئيس بوتين في إقناع الرئيس الأسد انّ اتهامات رجب طيب أردوغان له إنما كانت اتهامات في السياسة، وبالتالي وفق مفهوم النظرية اللبنانية لا أثر لها وعليه لا مانع من الجلوس سوياً.
انّ نظرية الاتهام في السياسة وانْ كان الظاهر فيها أنها هرطقة فإنها بلا شك منتج لبناني متميّز سواء من حيث الاثر او التداعيات استطاع مطلقوه التفوق على معظم أفكار من سبق من فلاسفة ومفكرين وعلامة فارقة تضاف الى نظريات الاجتماع السياسي اللبناني المخالفة لكلّ القوانين والمقاييس الطبيعية.