منذ ما يقرب من ثلاثة عقود وأنا أحترف العمل البحثي في المجال السياسي، وخلال السنوات الأخيرة وتحديداَ منذ اندلاع موجة الربيع العربي المزعوم في نهاية العام 2010 وبداية العام 2011، وأنا منخرط في قراءة وتحليل الواقع السياسي العربي والدولي وتتم استضافتي عبر العديد من المنابر الإعلامية المحلية والاقليمية والدولية للقيام بهذه المهمة، وإلى جانب ذلك أقوم بالكتابة السياسية بشكل منتظم لعدد من الصحف والمواقع المصرية والعربية والدولية، وعلى الرغم من إدراكي للفرق بين القراءة والتحليل السياسي وكتابة الرأي، إلا أنني لاحظت أن غالبية من يمارسون تلك المهمة سواء كانوا باحثين أو أكاديميين أو صحفيين، ممن يقدمون أنفسهم وتقدمهم المنابر الإعلامية المختلفة تحت مسمى كاتب ومحلل سياسي يخلطون دائماَ بين الرأي والتحليل السياسي، وعندما تسأل أحدهم عن الفرق بينهما يرتبك ولا تجد لديه إجابة مقنعة.
وخلال الأيام القليلة الماضية وجدت كثير من المتابعين لتحليلاتي السياسية ولمقالات الرأي التي أكتبها يعلقون على ما أحلل بعدم الرضا، وبعضهم يؤكد على أن هناك تناقض أحياناَ بين تلك التحليلات التي أقوم بها عبر المنابر الإعلامية المختلفة وبين ما أكتبه في مقالات الرأي، وحاولت كثيراَ توضيح الفرق وأن المسألة لا يوجد بها أي تناقض، لأن طبيعة محتوى التحليل السياسي تختلف تماماَ عن طبيعة محتوى مقالات الرأي، فالتحليل السياسي يبنى دائماَ على المعطيات الواقعية المتغيرة، فعندما تحلل الواقع السياسي أنت تتعامل مع معطيات خارجة عن معتقداتك وانحيازاتك الفكرية، ودائماَ ما تبني توقعاتك وفقاَ للمعطيات التي يقدمها هذا الواقع بغض النظر عن قناعاتك بالنتائج المحتملة، وبغض النظر عن إيمانك بما تقدمه من تحليل، وعلى العكس تماماَ تأتي مقالات الرأي والتي غالباَ ما تتدخل فيها وجهة نظر الكاتب وتنعكس من خلالها معتقداته و انحيازاته الفكرية، حيث يطغى الذاتي على الموضوعي، حيث يقدم الكاتب ما يتمناه حتى ولو كانت هناك استحالة لتحقيقه على أرض الواقع.
ولتوضيح الفرق عملياَ يمكن تقديم نموذج عملي، فمن خلال التحليل السياسي للقضية الفلسطينية أحد القضايا المركزية داخل الواقع العربي فإن هناك العديد من الدول العربية قد قامت بعقد اتفاقيات سلام وتطبيع مع العدو الصهيوني، وهذه الحكومات التي قامت بهذا الفعل تكون قد اعترفت بهذا العدو، وبالتالي تكون قد خرجت من دائرة الصراع وانهت حالة العداء معه، وعند نشوء خلاف أو حدوث عدوان صهيوني على أهالينا الفلسطينيين في الأراضي المحتلة كما حدث خلال شهر رمضان من اقتحام قوات العدو للمسجد الأقصى والاعتداء على المصليين ومنعهم من ممارسة شعائرهم الدينية، ثم مواصلة العدوان على سكان القدس خلال عيد الفطر المبارك، فإن التحليل السياسي يقول بأن حكومات الدول التي وقعت اتفاقيات سلام وتطبيع لن يتحرك لها ساكناَ وأقصى ما يمكن فعله هو الشجب والإدانة، وبالطبع هذا التحليل مبني على معطيات الواقع، في حين أن مقال الرأي في تلك الحالة ذاتها سوف يختلف تماماَ حيث سنقوم بإدانة هذه الدول وقد نصفها بالعمالة للعدو، ويمكن أن نقوم بتحريض شعوب هذه الحكومات ضد حكوماتهم المتخاذلة أمام العدو، وقد نطالب بتجييش المقاومة الفلسطينية ضد العدو، والتأكيد على أن البندقية والمدفع والصاروخ هي الحل الوحيد في مواجهة هذا العدو الذي لا يعرف إلا لغة القوة، وهنا يمكن أن نردد مقولات مثل ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وهنا يتضح أن مقال الرأي يتجاوز الواقع الموضوعي حيث تتدخل فيه معتقدات الكاتب وانحيازاته الفكرية، وبالتالي قد يبدو متناقضاَ مع التحليل السياسي.
لذلك يجب أن يراعي كل من يمارس عملية التحليل السياسي وكتابة الرأي الفرق بين العمليتين، ونفس الأمر فيما يتعلق بالمتلقي والذي قد نجد له بعض الأعذار نظراَ لتباين المستويات الثقافية للجمهور، فالتحليل السياسي علم له نظرياته ومناهجه وبالتالي يخضع لمسلمات المنهج العلمي والذي يعتمد بشكل أساسي على رسم صورة الواقع بناءَ على الأدلة والبراهين المادية الملموسة والمحسوسة دون أي محاولة لإقحام التصورات الذاتية التي تختلط فيها المعتقدات والانحيازات الفكرية وهي ما تبرز لدى كاتب الرأي عند كتابة مقاله للجمهور المتلقي، اللهم بلغت اللهم فاشهد.
بقلم/ د. محمد سيد أحمد