ما زال التاريخ المعلم الاكبر الذي يلقننا ويعلمنا الدروس ومن اعظمها ان الحروب هي القاعدة والسلم هو الاستثناء. حتى الرسل والانبياء كانوا مضطرين لخوضها. وما ان تضع الحرب اوزارها حتى تبدا الاطراف المتصارعة بالاستعداد والاعداد للحرب التي بعدها. بدءأ من ملء الفراغ الناتج عن الحرب وحتى بدء الاشتباك في الحرب التي تليها. من الامثلة على ذلك الحرب العالمية الاولى التي ادت الى سقوط امبراطوريات وصعود اخرى ، وما تلاها من استمرار كل الاطراف للتحضير لما بعدها من حروب المستقبل ابتداءا من ملء الفراغ ولغاية اشتعال الحرب العالمية الثانية.
ان القوى التي كانت جغرافيتها مسرحا للعمليات العسكرية في الحربين العالميتين الاولى والثانية كانت الاكثر تضررا حيث خرجت منهكة اقتصاديا وبشريا. اما الولايات المتحدة الامركية التي لم تمس جغرافيتها نيران الحرب وسعيرها خرجت الدولة الاقوى والاقدر على ملأ الفراغ السياسي والاقتصادي والعسكري الناتج عن الحروب مما جعلها القوة العظمى التي ورثت امبراطوريتي بريطانيا العظمى وفرنسا. كذلك تقدم الاتحاد السوفياتي صانع النصر العظيم على النازية والفاشيةلملأ الفراغ، وكانت المحصلة بروز قطبين عالميين يديران الاحداث على مسرح السياسة الدولية. انتهت الحرب العالمية بانتصار الحلفاء على المحور لكنها استمرت بين القطبين بالوكالة واكبر دليل على هذا الحرب الكورية والحرب الفيتنامية التي راح ضحيتها الملايين من البشر.
مع انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو تقدمت امركا وملأت الفراغ وصارت القوة الوحيدة والقطب الاوحد الذي تربع على عرش العالم. لم تلتزم امركا بتعهداتها لغورباتشوف بعدم التوسع شرقا في دول حلف وارسو بل قامت باضافتها الى الاتحاد الاوروبي ومن ثم الى حلف الناتو. لم تقف امركا عند هذا الحد بل راحت تدق ابواب موسكو من خلال اسقاط الحكومة المنتخبة ديموقراطيا في اوكرانيا والاتيان بحكومة نازية لمشاغلة روسيا. دفعت هذه السياسة العدوانية للناتو وعملائه الدولة الروسية لشن حرب استباقية في شهر شباط / فبراير 2022 والتي ما زالت مستمرة ويقف الناتو بقضه وقضيضه حلف اوكرانيا في مواجهة روسيا.
واضح الان ان حرب الناتو فشلت وان الهدف الاستراتيجي الذي حددته روسيا وعبر عنه لافروف وزير الخارجية الروسي(( تحقيق نظام عالمي جديد متعدد الاقطاب وعادل.)).
تمثل منظمة البركس ومن سينضم اليها من الدول ومنظومة شنغهاي للامن مجموعة هذه الاقطاب. وان قبضة امركا على الشرق الاوسط ارتخت ، وتقدمت الصين لملأ الفراغ الناجم حيث ابرمت الاتفاق الثلاثي الاستراتيجي الصين - السعودية - ايران .
* دارت على سورية وفي سورية حرب كونية لاسقاط الدولة السورية وتقسيم جغرافيتها على اسس مذهبية وعرقية وكانت تركيا الاطلسية البوابة والمعبر وميدان الاعداد والاسناد والجيش المتقدم والاحتياطي لقطعان الارهاب العالمي الذي قذفته امركا بوجه الدولة السورية ومولته دول البترودولار بالمليارات. رغم كل ذلك صمدت الدولة السورية وهزمت قوى الارهاب وتراجع الممولون ولم يبق في المشهد الا امركا في شرق الفرات ومخلب الناتو تركيا في ادلب. تحاول تركيا العثمانية التخلص من ارجاس ما ارتكبته باسم الدين بحق سورية والعروبة وعينها على البريكس ومنظومة شنغهاي حيث الثقل الاقتصادي الا ان يدها مغلولة من قبل القوى الارهابية التي رعتها في سورية وما يشكله الانسحاب من سورية والعودة بخفي حنين بعد ان كان سقف مطالب اردوغان الاطاحة بالرئيس السوري والصلاة في المسجد الاموي في دمشق الذي تسمع من مأذنه عند كل اذان " جعجعة الحرس الاموي". ومع انهماك امركا باوكرانيا وتايوان وطموح اردوغان بالانضمام الى البركس ومنظومة شنغهاي صارت سورية الجسر والممر الاجباري له للوصول اليهما. دأب يخفف من غلوائه وتطرفه تجاه الدول العربية وخاصة مصر والسعودية ثم تقدم بخطوته الاخيرة وهي استعداده للقاء الرئيس السوري في اي وقت واي مكان. والتوصل الى مصالحة تاريخية. ان صمت المدافع في سورية والظروف الموضوعية التي استجدت خلقت فراغا سياسيا واسعا في الاقليم لا يشغله الا سورية المنتصرة والقوى التي وقفت معها والى جانبها. ولكي لا تنفرد في هذا تداعت الدول العربية الى التقرب من سورية كي يكون لها نصيب. وعليه يمكننا القول بكل ثقة ان الدول العربية وجامعتها هي التي تسعى الى الحضن السوري. ورغم ان مياه الزبداني باردة جدا في الصيف الا ان الحضن السوري يبقى الاكثر دفئا.
ان الاتفاق الثلاثي الصيني - السعودي - الايراني (( المعجزة والمفاجأة)) قد ارخى بظلاله على الاقليم لجهة اخماد الحرائق المذهبية والعرقية التي لا يستفيد منها الا الكيان الصهيوني سيوفر هذا الاتفاق المناخ الملائم للاعمار والبناء والرخاء لشعوب المنطقة. سيتعرض الاتفاق للعراقيل لكنها ستفشل لان هذا الاتفاق يجسد ويحقق تطلعات النخب الاقتصادية ( تجار ومقاولون وصناعيون) بالاضافة الى المثقفين وعموم الناس.
* لن يكون الاتفاق الثلاثي المفاجأة الوحيدة في الاقليم. هل هناك ما يتعلق بفلسطين والصراع العربي الصهيوني؟
للاجابة على هذا السؤال نعود الى الفراغ السياسي واود التذكير بالاحداث التالية
١- قامت الجامعة العربية واللجنة العربية العليا(( حكومة فلسطين الجنينية)) (( The embryonic palestinian government)) بمقاطعة المفاوضات مع لجنة اليونسكوب(( United Nations Special Committee For Palestine)) وذلك قبل قرار التقسيم رقم 181 سنة 1947 ولم تشارك في المداولات المتعلقة بايجاد احسن الطرق لتطبيق القرار بعد تبنيه واقراره. مما خلق فراغا والطبيعة لا تقبل الفراغ وتقدمت القيادة الصهيونية لملئه بكل سهولة ويسر وثقة كاملة بالنتائج .اسرعت القيادة الصهيونية باقامة حوار ثنائي مع هيئة الامم المتحدة بهدف العمل على مخطط تقرير مصير فلسطين ومستقبلها. اتاح الرفض العربي الفلسطيني المطلق لقرار التقسيم وسهل بلا شك على عراب وقائد الصهيونية بن غوريون لاتباع سياستين الاولى برفض قرار التقسيم والعمل ضده بالتوسع على الارض والثانية قبول القرار والحفاظ على حصته التي اقرها التقسيم وعدم التنازل عن اي شبر. ونتيجة لرفض العرب التعاون مع هيئة الامم المتحدة فانه اتاح للحركة الصهيونية بقيادة الداهية بن غوريون اقامة الدولة الصهيونية بلا حدود جغرافية.
)) اسرائيل الدولة الوحيدة في العالم التي ليس لها حدود.))
هذا النمط في سياسة الحركة الصهيونية تكرر في تاريخ ما يسمى تحقيق عملية السلام وخاصة بعد انخراط الولايات المتحدة الامركية في حرب حزيران ولغاية الان. حيث ان عملية السلام صارت حصريا بيد امركا واسرائيل دون اي اعتبار لاي طرف.مما مكن الحركة الصهيونية والكيان بالسيطرة على ما يقارب% 80 من مساحة فلسطين وعلى كامل التراب الفلسطيني بعد حرب حزيران عام1967
2-ان تنازل حكومة عموم فلسطين عن الضفة الغربية والحاقها بامارة شرق الاردن والتي على اساسها قامت (( المملكة الاردنية الهاشمية)) بضفتيها الشرقية والغربية لنهر الاردن ووضع قطاع غزة تحت الادارة المصرية ادى هذا الواقع الجديد بالاضافة الى نكبة 1948 الى خلق فراغ سياسي كامل شغلته القوى الاقليمية وغاب او غيبت عنه فلسطين وشعبها. وصار الفراغ السياسي العدو الثاني بعد الكيان والنكبة.
3-حين انطلقت الثورة الفلسطينية عام 1965معلنة الكفاح المسلح استشعر الكيان الصهيوني الخطر الداهم والقاتل على وجوده المتمثل بتصحيح المسار وتقدم الفلسطيني لملأ الفراغ، وهذا ما يفسر الحملات الشرسة التي شنها الكيان الصهيوني والمركز الامبريالي والكيانات الوظيفية ضد الثورة الفلسطينية كل من موقعه وعلى قدر همته وامكاناته. من اجل اجهاضها ووأدها.
4- بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد وخروج مصر من الصراع العربي الصهيوني واستنزاف العراق بزجه في حرب مع ايران وانكفاء سورية التي بقيت بدون حليف او رديف واحتلال صدام لدولة الكويت ومن ثم تحريرها واعادة الشرعية اليها وسقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي وتربع امركا على عرش العالم كل هذه العوامل خلقت مناخات للانخراط في الدخول في تسويات غير متكافئة مع الكيان وبرعاية امركية دفعت الاردن لتوقيع اتفاقية وادي عربة ووضعت منظمة التحرير الفلسطينية امام خيارين احلاهما مرً فاما الغياب والمقاطعة وتكرار ما حصل عام 1947من المقاطعة وعدم الدخول في المعترك السياسي واخلاء الساحة للكيان لكي يقرر وحده مصير القضية الفلسطينية او الدخول في المعترك السياسي ( على وساخته)، وكل المعتركات السياسية لا تخلو من الاوساخ. ومزاحمة الكيان على الارض وبكل الوسائل المتاحة على ارض الضفة والكيان وعلى مقربة من فلسطيني الارض المحتلة عام 1948. هكذا انخرطت منظمة التحرير بالتسوية على ارضية اتفاق اوسلو الذي افرز السلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة والقطاع وشكلت حكومة فلسطينية ومجلسا تشريعيا وشاركت الفصائل الفلسطينية وفي مقدمتها اليسارية وحركة حماس الاسلاموية..
ان السلطة الفلسطينية هي الممسكة بكل ارث منظمة التحرير الفلسطينية التي يعترف بها العالم على انها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني ويقيم معها علاقات دبلوماسية كاملة سفارات وقنصليات وهي صاحبة الخبرة الطويلة في التخاطب مع دول العالم والمنظمات الدولية المختلفة. هذا هو واقع الحال والحقيقة التي لا يستطيع اي طرف تجاوزها او القفز فوقها شئنا ام ابينا. في التحليل السياسي لا مكان للاماني والرغبات والعواطف.
* بما ان المرحلة الحالية تتسارع فيها الاحداث وحبلى بالمفاجأت ومنها ما لا يمكن تصوره او وقوعه كما حصل في الاتفاق الثلاثي الصيني السعودي الايرني والانفتاح العربي على سورية وتقدم الصين بقوة وعزم في المسرح الافرو - اسيوي وفي القلب منه الشرق الاوسط وما ترتب على نجاح روسيا باستيلاد نظام عالمي جديد ومتعدد الاقطاب وعادل ومن ابرز مشاهد تعافيه ونموه السريع طلب العديد من الدول للانضمام الى مجموعة البركس ومنظومة شنغهاي للامن والتعاون. كل هذه المتغيرات تضع الشرق الاوسط في عين العاصفة مما يضطر كثيرا من الدول لاعادة جدولة اولوياتها ومراجعة سياساتها ومواقفها وخاصة ما يتعلق بالكيان الصهيوني الغاصب لجهة التداعيات والمتغيرات السريعة وخاصة محور المقاومة .
ماذا لو حصلت مفاجاة من العيار الثقيل؟ التي لا علاقة لها بالايديولوجيا والمثولوجيا والاستراتيجية السائدة، منها على سبيل المثال ان تتقدم القوى الدولية الوازنة ودول الاقليم باحياء المبادرة السعودية التي تبنتها القمة الهربية في بيرون عام 2002 اقامة دولة فلسطينية على اراضي الضفة والقطاع التي احتلت عام 1967 في شهر حزيران والقدس الشرقية عاصمة لها ومنزوعة السلاح. من هو الطرف الفلسطيني المقبول عربيا ودوليا لتمثيل فلسطين؟ من هو صاحب التجربة السياسية والدبلوماسية المؤهل لشغل الفراغ ان حصل؟
الجواب بلا تردد هو السلطة الوطنية الفلسطينية الممسكة بمنظمة التحرير الفلسطينية وكل المؤسسات والهيئات التابعة لها.
اعرف ان هذا الطرح يثير جنون الاغلبية الشعبوية تلك التي لا هم لها الا اسقاط السلطة فقط وبعدها الطوفان ضاربة بعرض الحائط بكل التداعيات واهمها ترك الميدان لحميدان الصهيوني. لذلك نجد ان المعارضين للسلطة ثلاثة فئات الاولى قلبها على فلسطين وشعبها وهي تريد سلطة متحررة من الالتزامات الامنية وقليلة الفساد والمحسوبية وهي الواعية على ظروف المرحلة. اما الفئة الثانية فهي الشعبوية والرغبوية والفوضوية اما الفئة الثالثة والاخطر هي المنخرطة مع الكيان وراعيته امركا وما ينبثق عنهما من هيئات الطابور الخامس وفي مقدمتها N.G.O التي تمارس نشاطها تحت عباءة الوطنية تارة وتحت عباءة الدين تارات.
م. زياد أبو الرجا