كتب الدكتور علي حجازي: قصة قصيرة
ثقافة
كتب الدكتور علي حجازي: قصة قصيرة "ورقة من مُذكّرات نَسر"
2 تموز 2023 , 17:13 م


قصّة قصيرة.

الأصوات التي تعالت من أماكنَ متفرّقةٍ في الغابة، تناهت إلى سمع ذلك النسر الذي كان يُحلّق

عالياً، بحثاً عن ماءٍ وطعامٍ له ولفراخه المنتظرة في العشّ، حيثُ اختار أغصان سنديانةٍ عتيقةٍ ثابتةٍ في أعلى الجبل مكاناً له.

قرّر العودة سريعاً إلى عشّه، بُغْيَةَ الِاستماع، عن قرب، إلى تلك الدعوات، وإلى تحليل أهدافها ومراميها.

أصاخ السمعَ جيّداً، كانت فصائلُ الحيوانات تتنادى إلى عقد اجتماعاتٍ عاجلةٍ، من أجل دراسةِ مصيرِ الغابةِ ومستقبلها.

ضمّ صغارَهُ تحت جناحَيْه، وشرع يتمتم:

- اللّٰهمَّ احمِ وحدةَ هذه الغابة، وقرارَها الواحد؛ آمين يا ربّ العالمين.

لم يكد يُنهي دعاءَهُ حتّى سمع جلبةً قويّةً، حدّق ببصره الثّاقب فشاهد الثعالبَ تعصبُ وراءَ ثعلبٍ معروفٍ بدهائه، تصغي إليه، وإلى خطابه.

أدار الطرف يمنةً فرأى الضباع تلبي خشارم ضبع عجوز ونداءه إلى اجتماع عاجل.

ولكم كانت دهشته كبيرةً لدى مشاهدته ما يزيد عن ثمانين ضبُعاً تُسرع الخطى صوب مركز قيادة قائد عشيرة الضباع.

أدار الطرف يسرةً فأبصر جماعات الخنازير والذئاب، وفصائل الحيوانات الأخرى تلبي نداءات قادتها إلى اجتماعات طارئة.

​خطابات وخطابات، وكلام عالي النبرة، وكلّ قائد منها يدعو إلى اقتسام الغابة، والاستقلال في بقعة محدّدة له، ولأبناء جلدته.

عجوز الثعالب قال:

- آن لنا، نحن جماعة الثعالب وبنات آوى، وأبناء فصيلتنا أن نعيش في منطقة في الغابة، لها حدودها الجغرافية المستقلة، لا نقرب مناطق الحيوانات الأخرى، وهي لا تقربنا. وعند آخر كلمة فاه بها الثعلب العجوز علا ضُباحُ الثعالب وبناتِ آوى، وحرّكت أذنابها سروراً بهذه الدعوة الِانفصالية، القديمة الجديدة.

لحظات مرّت، قبل سماع صياح الضباع، نظر ، فإذا الخلاف الذي دبّ بينها كبير.

- أنت تعرف، يا كبيرنا، أننا معشر الضباع نعتاش على جثث الحيوانات النافقة، وتلك التي نصطادها. فإذا انعزلنا في منطقة واحدة، فمن أين لنا الحصول على تلك الجيف، من أين؟ (قال ضبع عتيق).

- طيّب، أيّ ضبع سيحكم جماعتنا، بعد وفاتك، وأنت تعلم مقدار التنافس على السيادة بين أفراد جماعتنا، وهذه عادة متأصلة فينا نحن معشر الضباع، حتى صغارنا تتنافس فيما بينها على أسبقية الرضاعة، ولا يتورّع صغيرنا عن قتل أخيه. (قال ضبع آخر خبر طمع الضباع صغاراً وكباراً).

خلال إصغاء النسر الكبير للنقاشات الحادّة الدائرة بين الضباع، علا صوت ثعلب:

- من يحكم منطقتنا بعد غيابك، وأنت تعلم أنّ الثعالب جبانة، وذات مكر وخديعة، وهي محتالة في الحصول على طعامها، والأهمّ أنّها تقضي معظم ساعات النهار نائمةً، ولا تخرج إلى الصيد إلّا في الظلام؟ وكيف لها أن تدافع عن منطقة انعزالها في حال هوجمت في النهار؟ (قال ثعلب ماكر).

دنا النسر من أنثاهُ أُمِّ قشعم وقال:

- أنت تسمعين أصوات جماعات فصائل الحيوان من دون شك؛ فما رأيك؟ هل ستنجح في اقتسام الغابة الواحدة؟ وبمَ تشيرين عليّ الآن؟

- الرأي رأيُك يا سيد سباع الطير، وبعد، يجب إبلاغُ الأسد سيّدِ الغابة بهذه المؤامرات التي تُحاكِ عند هذا المساء.

- أحسنتِ،فرأيك صائب.

حطّ النسر قرب عرين الأسد الذي رحّب به أجمل ترحيب:

- أهلاً وسهلاً بسيّد الطير.

- أهلاً بك وبعائلتك التي تحوط بك من أبناء جلدتك وبناتها اللبوءات العزيزات.

- أتسمع الآن أصوات فصائل الحيوانات الداعية إلى اقتسام الغابة؟

- أسمع، يا عزيزي، وأرى.

- وما هو موقفك من ذلك كلّه؟

زأر الأسد، وسوّى من جلسته، وأشار إلى الأشبال أن يُبديَ كلٌّ رأيه. عندها طلب إلى شبل ٍ الكلام.

- تفضل يا عزيزي الشبل.

- أتترك الحيوانات تقتسم الغابة؟

تلفّت الأسد وقال: ما رأي الجماعة؟ فالأمر شورى.

وقف شبلٌ، بعدما طلب الإذن بالكلام، وقال:

- لن نسمح بهذه الدعوات التقسيمية المؤدّية إلى إضعاف غابة هي واحة الجميع وظلّهم، لن نقبل، لن نقبل.

ردّدت الأشبالُ بصوت واحد: لن نقبل، لن نقبل.

قام شبل وقال: - أتسمح لي بالكلام؟

- تفضّل يا حبيبي، فرأيك يهمّنا.

- لمَ لا نقمع هذه الحركات الِانفصاليةَ في مهدها، وقبل استفحالها، وجماعة الآساد قادرةٌ على ذلك، لمَ؟

- هل من آراء أخرى أحبتي؟

- الرأي رأيُكَ يا سيدَ الغابة. (قالها الجميع).

قال الأسد بهدوء ورصانة:

- لكل حادث حديث يا أعزائي، فلا تستعجلوا الأمور.

طالما أنّ هذه الجماعات مختلفة، وغير موحّدة على من يرأسُها في ما تعدّه مقاطعات خاصةً بها، وطالما أنّها غير متّفقة على رأي واحد، ولن تتّفق، برأيي، فلنراقب، ولكل آن أوان.

قبل أن يصفّق النسر بجناحيه عائداً إلى عشّه، قال بعدما طلب الإذن بالكلام:

- أنت تعرف لقبي، فأنا كاسر العظام، ألقي الجماجم على الصخر من علٍ، فتتكسّر، ونتناول نخاعاتها المحصّنة داخلها.

- قال الأسد: هذا إن كان في جماجمها نخاعاتٌ، وعقولٌ راجحة مقدّرةٌ خطورة ما تقدم عليه.

تابِع يا عزيزي النسر، تابع.

- من هنا، من على أرض هذا العرين أُعلِنُ التزامي بأي أمر تصدره، فأنا، واخوتي النسور،مستعدون لتكسير رؤوس هذه الحيوانات الانعزاليةِ الضالّةِ التي لم تستفد من تجاربَ سابقة.

- رويدك يا حبيبي النسر، فعلينا ألّا نستبق الأمور، فلكل مشكلةٍ وجهان في المعالجة، الأول: يتمّ بالحسنى، وأمّا الثاني فهو استخدام القوة؛ لذا، علينا أن نحاولَ، مرات عديدة، حلّّ مشاكِلِنا بالحسنى، لأنّ الحربَ مكلفة، ولا تجلبُ لهذا الغابِ سوى الخراب.

ثمّ أنت تعلم أن يدي هذه، أحتضن بها أحبتي، ولا أؤذي أحداً منهم ، لأنّ مخالبي تكون مضمومة، والويلُ، كلُّ الويل، لخصومنا، إذا ما برزت، فعندها ستكون النازلةُ الكبرى عليهم، والتي ستمزقهم إرْباً إرباً.

قال الأسدُ ذلك، وأدارَ في الجماعة طرفه وقال:

- عليكم أن تعلموا، أن هذا الغاب ناقصاً منه جماعة من جماعات النحل أو الفراش، النمل ،أوجماعات الطيور والزواحف والقوارض والحيوانات لا يعدّ غاباً.

الغاب الحقيقيُّ ملكُ جميع ساكنيه المقيمين باحترام وحبّ فيه.

قال ذلك ثم توجّه إلى النسر شاكراً اندفاعته وعلوّ همّته، وتابع:

عندما يحينُ الحين، فلن نوفِّرَ دعمك مع جماعتك يا عزيزي ، إلى اللقاء، إلى اللقاء.

- قبل أن يصفق النسرُ بجناحَيْهِ عائداً إلى عُشِّه، مترقباً قال:

- لكل شيئ أوان .إلى اللقاء إلى اللقاء

قبريخا - جبل عامل

المصدر: موقع إضاءات الإخباري