هناك في العراق , في ارض السواد ، حيث نزيف الرافدين في صحراء كربلاء , مزار كانه كوكب دري يشع بانواره الارض، ذو انجذاب عالمي تتوافد اليه خطوات الباحثين عن القداسة من كل انحاء العالم , لتنجو , لتكسر قيود العبودية والطغيان، فتلتحق بركب سفينة النجاة , باحثة عن الحسين فتتعالى الاصوات في زمان مقدس ، عند المزار المقدس ، في مكان احتضن القداسة ويردد صدى هذه الاصوات عبر التاريخ ( لا من ناصر ينصرنا الا انت ياحسين ).
شاءت الإرادة الإلهية ، ان تسير دورة الزمان والمكان والغد المشرق الا مع الحسين من ارض العراق ، ومن خلاله يكون الطريق الى الله فكان الحسين الشهيد الحي ،الغائب الحاضر ، المظلوم المنتصر ، موجها للتاريخ ، فكان الحسين مشروعا آلاهيا فيه تجسد الانسان الكامل، ممثلا لخط النبوة , في صحراء كربلاء , ارض قابلة لزراعة البدايات ، تحمل الحسين كهدف انساني عبر التاريخ ،تحنو اليه خطوات الباحثين عن الحقيقة ، فتسير بهم ذكراه غارسة اثر خطاهم في الرمال ، هناك عند مشرق الشمس , وعند ضفاف الفرات ، حيث الشفاه الذابلة والنفوس الابية ، لم ترتوي ولم تطلب الماء ، لتوثق عبر التاريخ المتعالي كتابة راية التوحيد (لا اله الا الله محمد رسول الله) بالدم ، بوجه الطغيان.
في حينها ، شمرت ضفاف الفرات عن ساعديها مع الحسين ، ترافقه رمال كربلاء العزم لحفظ هذه القداسة التي روت كل ما يحيط بها بنبع الحسين ، فكان الزمن والمكان والبحر والرمل يدونون صوت زينب وزين العابدين وهم يقصون حكاية امام ذبح من الوريد الى الوريد ، ويشرحون نهضته الثورية مع صحبه ،وكيف امام فدى الوجود -الانسانية- بنفسه ، فكان البقاء والخلود رهن اشارته كمفاهيم صنعها الحسين تتحرك في وجدان التاريخ لترشد وجدان الأمم الى القداسة المهدورة عند ضفاف الفرات ، هناك حيث الرمال والشمس الذهبية ،علّم الحسين الانسانية المظلومة كيف تنتصر فتنجذب اليه بفطرتها ، فتشد الرحال اليه ، عطشى ، ثكلى ، لتتعالى به وتزيح ستار الظُلم عنها فتصبح بالحسين ومعه ذات قيمة ...
هكذا جذب مشهد الحسين المقدس ، غاندي لينتصر .
اسرار الحسين لا تدرك ، وانفراد صحراء كربلاء الهادئة باحتضان جسده الطاهر كبداية لصنع التاريخ عميق وغير قابل للاستيعاب في حركة الانسانية .
هناك في روضة الحسين كل شيء مختلف، اشترك كل شيء مع الحسين ولزم السكون، احتراما للحسين ولحبه لهذه الانسانية التي تبحث عنه في طلاسم التاريخ ، فلم يكن هناك صوتا في الميدان الا صوت الحسين وكلماته ، ترافقه اسماء الله وصفاته وكلماته , ومن دونهم كل شيء هالك لا محاله .
كوثر ابدي يروي الوجود بحياة جديدة , هناك حيث النفوس المقدسة التي نامت فوق الرمال ،سقت بدمائها الطريق ، فتُقدم لكل من سلك هذا السبيل الماء عند وريد الحسين ، هذا الوريد الذي يتدفق حرارةً عبر التاريخ , فتتسامى به النفوس وتعلو , فتعلمهم لون شهادة الحسين ,عالمٌ من القداسة يتردد صداه سنويا حاملا شعار وكلمة امامنا الحسين مثلي لا يبايع مثلك.
انتَ ابن الطهرُ علي وفاطمة ، فلم قتلوك ؟ هل بقتلهم اياك ارادوا قتل رسول الله ؟ ولمَ ؟
هل ارادوا قتل رسالة الله ؟رسالة الهداية الى الانسانية ؟
قال لهم الامام الحسين انسبوني ، هل يحق لكم قتلي الست انا ابن بنت نبيكم ؟ انسبوني ،لتصلوا الى الذوات المتحركة في ارض المعركة وقيمها وروحها التي تحركها وما هو مكمن العداء في الأصل.
فمن انتم انسبوا انفسكم؟
حمل الامام الحسين كلمات الله وصفاته (دين محمد ) وان لم يستقم دين محمد الا بقتلي فيا سيوف خذيني ، وحمل قاتليه الجحود لله سبحانه وتعالى , فكان سفك الدماء لممثل صفات الله , و تحدي إرادته وسنة رسوله , وتعطيل شريعته, فقتلوا الحسين .
موقف بين الحق والباطل اخذ اشكالا عدة منذ الايام الاولى لخطى الانسان في الوجود، ورفض ابليس الرجيم الانصياع لاوامر الله سبحانه وتعالى عندما طالبه بالسجود لما خلق , فابى واستكبر وتوعد بانه سيقعد الصراط المستقيم لبني ادم ويعطل شريعة الله بخط الانحراف ،فكان التاسيس و البدايات لمفهوم الفسوق والانحراف منذ هذه اللحظة .
وهذا ما حدث في ارض كربلاء، كانت الامة الإسلامية ورجالاتها في ذلك الوقت امام امتحان عسير من خلال رمزية الحسين , فكانت عوامل الانجذاب القدسي تمارس دورها بهدوء في استقطاب النفوس المناصرة للحسين , وعوامل أخرى مناقضة تقعد امام الصراط المستقيم تجيش النفوس لقتل الحسين , فتمايز الانسان بمواقفه، فمنهم من التحق بركب الحسين، ومنهم من تخل عنه.
ان الامام الحسين كان في تلك الحقبة الشخص الوحيد المؤهل لقيادة الساحة التاريخية.
افرز الامام واقعا جديدا له مفاهيمه وقيمه ذو ميزة قابلة للتجدد والحركة بثورية وبداية لإعادة البناء مستاصلين دعائم الظلم باشكاله من الوجود. وما شعار الامام الحسين (كونوا احرارا في دنياكم )او ( عيشوا احرارا كما ولدتكم امهاتكم ) الا جزء يسير من نسق فكري لال البيت ، استقى منه فطريا بعض من حمل الكفاح المسلح في امريكا الجنوبية كتشي جيفارا - مع التقدير والاحترام - ، ومن المؤكد سيخلد خط الانحراف تشي جيفارا ، ليس حبا به ، وانما ليغطي على الحسين .
رئيس مركز الدراسات والبحوث الاستراتيجية العربية الأوربية في باريس
دكتور عامر الربيعي