سؤالٌ بديهيٌّ يُسأَلُ في كل بيتٍ مؤيِّدٍ للمقاومةِ في لبنان، من أي طائفةٍ كان أو مذهب، هو: لماذا البعض يكره المقاومةَ إلى هذا الحَد، ويعملُ لإضعافها وتدميرها، في أكبرِ عمليةِ تقاطُع ٍ لموقفهِ مع موقف الكيان الصهيوني من هذه المقاومة، مع العلم أنَّ المقاومةَ قدَّمَتِ الكثيرَ للبنانَ،لكلِّ الطوائفِ اللبنانيةِ والمنطقة.
والسؤال الكبيرُ الأهمُّ هوَ:
ما هيَ مصلحةُ هؤلاءِ في التَّصَدّي لها، وزرع ِ الخصومةِ، وحصد العداوةِ معها؟!
هل هؤلاءِ صهاينةٌ بأثوابٍ لبنانيةٍ، أم هم عملاءُ لهم؟
أم أنَّ موقفَهُم غيرُ مُرتبطٍ بالموقفِ الصهيونيّ،ولكنّّهُ تقاطعَ معهُ صُدْفَةً، من دون ِ أي تنسيق ٍ مُسْبَقٍ أو تعامل؟ وهذا أخطر.
سنشرحُ لكم وُجهَةَ نظرِنا في القضيةِ، لعلَّنا نصلُ سوياً إلى اِستِنتاج ٍ علميٍّ يَفيدُنا في تصحيح ِ العلاقةِ، وتصويبِ إبرَةِ البوصلَة، نحو الِاتِّجاهِ الصحيح؛
لأنَّ هذهِ القضيةَ ليست طارئةً، إنَّما لها جذورٌ عميقةٌ في التاريخ.
عام ١٨٦٠، كانتِ القنصلياتُ الأوروبيةُ تحمي الوجودَ المسيحيَّ في المنطقةِ العربيةِ ومنها لبنان، بموجب إتفاق ٍ مع المحتلِّ التُّركيّ، الذي أعطى كُلّاً منَ الدروزِ والمسيحيينَ اِستقلاليةً سياسيةًوامتيازات،وكانت للسُنَّةِ حيثيةٌ خاصةٌ،في نظرِ البابِ العالي،إلاالأقلياتِ الأخرىَ ،ومن بينهم الشيعة، الذين لجأ أكثرُهم إلى الكنيسةِ، لِنَيْلِ الحمايةِ وحفظِ المُمتَلَكاتِ، هرباً من الظُّلْمِ العثمانيّ، فَنُهِبَتْ مُمتلكاتِهِم من حُماتها، في أكبرِ عمليةِ غَدْرٍ وخديعةٍ في التاريخ، ولم تُعَدْ إليهم، وطلَّ الجرح مفتوحاً، مع العلمِ أنَّ بعضَ العائلاتِ المسيحيةِ العريقةِ اليومَ، كآل الهاشم والنجار وسماحة وغيرهم، جميعهم كانوا من الطائفةِ الشيعيةِ اِعتنقوا الديانةَ المسيحيةَ، هرباً من سيفِ السلطان ِ العثمانيِّ وسَطْوَتِه،
رغمَ أنَّ الشيعةَ، وخلالَ كلِّ تاريخِهِم، لم يتعاملوا معَ الفرنجةِ ضِدَّ العثمانيين، وكانوا دائماً السّبَّاقينّ لِمُناصرَتِهم، ضِدَّ الغربِ الِاستعمارِيّ، ودائماً كانوا مُسْتَهْدَفِينَ منهم.
حتى بعدَ جلاءِ المستعمِرِ التركيّ، كانت ثورةُ السيد عبدالحُسين شرف الدين مُوَجَّهَةً ضدَّ الِاستعمارَيْن ِ: الفرنسيِّ والإنكليزيّ، ولم يُشْعِلْ ثورةً ضِدَّ الأتراك.
حتى في العراق، فإنَّ إشعالَ ثورةِ العشرينَ التي قامَ بها الشيعةُ،وأطلَقوا صفّارتَها، كانت مُوَجَهةً ضد الإنكليزِ الذينَ تسبَّبوا بتدميرِ المقاماتِ في كربلاءَ والنجفِ، على أيدي بَني عبد الوهّاب وبَني سعود السلفيين، ولم تكُنْ ضدَّ الأتراكِ العثمانيينَ، رغم ما فعلوه بهم.
عندَ إعلانِ دولةِ لبنانَ الكبير، حصلَ الموارنةُ تحديداً على اِمتيازاتِ السلطةِ والحُكم، مدعومينَ من الغرب، وبقيَ الشيعةُ داخلَ هذا البَلَدِ مُهَمّشينَ، رغم ما قدّموه له، وما أغنوا وطن الأرز به، من قِيَمٍ اِجتماعيةٍ وتضحية.
فالتحق الشبابُ الشيعةُ بصفوفِ حزبِ النّجّادَة، وبالحزب السوري القومي الِاجتماعي، والحزبِ التّقدُّمي الإشتراكيّ، وباقي الأحزابِ الوطنية، ولاحقاًانتمواإلى الفصائل ِ الفلسطينيةِ وناضلوا ضِدَّ الِاستعمارِ والِاستبداد، وضِدَّ الِاحتلال ِ الصهيونيّ لِفلسطين.
ولم يَرُق الأمرُ المُستَعمِرينَ،إذلم يَكُن على خاطرهم، فحرَّكوا عملاءَهم في الداخلِ، وعلى رأسِهِم بيار الجمَيِّل الجدّ وكميل شمعون، الَّلذَيْن ِ تواصلا معَ إسرائيل، وطلبآ منها تسليحَهُم ضدَّ ما أسْمَوْهُ: الِاتِّساعَ الديمُغرافيَّ الإسلاميَّ المؤيِّدَ للقضيةِ الفلسطينيةِ والمعادي للكِيانِ الصِّهيونيّ.
بعد ثورةِ القوميينَ السوريينَ، عامَ ١٩٥٨، ثَبَتَ للمارونيةِ السياسيةِ أنَّ الشيعةَ يُشكِّلونَ رأسَ حَرْبَةِ عِداءِ المشروعِ الغربيّ، الَّذي يعتبرُهُ الموارنةُ، آنذاك، يُمَثِّلُهُم، ويعيشونَ في ظِلِّه.
وما زاد الطينَ بِلَّةً، دعوة السيد عبد
الحسين شرف الدين للإمام السيد موسى الصدر إلى لبنان، لِتَوَلِّي أمورَ الطائفةِ، بعدما شعرَ بأنَّ خطرَ تجاذُبِها وضَياعِها مُؤَكَّدٌ، في غياب أيِّ شخصيةٍ دينيةٍ تَخلِفُهُ، في قيادتها بعد وفاته.
مجيءُ الإمامِ الصدرِ وتَوَلِّيهِ زِمامَ ناقةِ الطائفة، زادَ من خوفِ الموارنة، رغم اعتِدالِ سماحةِ الإمامِ المَغدور.
عَمِلَتِ المارونيةُ السياسيةُ على إنشاءِ جيلٍ مؤيِّدٍ لِلْغربِ لا يعترفُ بفلسطينَ عربيةٍ ولا يعتبرُ الكِيانَ الصِّهيونِيَّ عدواً له، والمناهجُ الدراسيةُْ كانت لغيرِصالحِ فلسطين، أغلبيتُها مزوَّرة ومدسوسة.
حُقِنَ هؤلاءِ الشُّبّانُ بالكراهيةِ تُجاهَ المقاومةِ الفلسطينيةِ والقضيةِ الفلسطينية، وضدّ سورية والشيعة.
وعندما عجَزوا عن إخراج السلاحِ الفلسطينيِّ الذي أدخلوه هُم بأنفسِهم إلى البلاد، أشعلوا الحربَ الأهليةَ، وجاءوا بإسرائيلَ، لتحتل َّنِصفَ لبنان، ومنهُ العاصمةُ بيروت.
إعلانُ المقاومةِ بوجهِ المُحتَلِّ الصهيونيُّ أثارَ حفيظةَ القسمِ الأكبرِمنَ المسيحيينَ،واعتبروها إرهاباً ضدَّدولةٍ ديمقراطيةٍ يسمُّونَها: "إسرائيل"!
كل ذلك حصلَ نتيجةَثقافةٍ تَرَبَّوا عليها، حقنهم بِها قادتُهُم، ترتكِزُ على كره المسلمينَ والمقاومين،واقنعوهم بِأنّنا مجتمعٌ مُتَخَلِّف.
بعد ارتفاع ِ أسهُمِ المقاومةِ إثرَ تحقيقِها إنجازات، وبعدما أصبحت قوةً لا تُقهَر، وبعدما تراجع المشروعُ الصهيونيُّ الذي ربطوا أنفسهم بهِ ربطاً مصيرياً وثيقاً، شعرتِ الأحزابُ الإنعزاليةُ المسيحية، أنَّ سيطرةَ الشيعةِ على المشهدِ السياسِيِّ بقوةِ المقاومة، علِمت أنّ هذا معناهُ سحقُ الِامتيازاتِ المارونيةِ خُصوصاً،والمسيحيةِ عموماََ،
الامرُ الذي زادَ من حِقْدِهِم على هذه المقاومة،ورفعواشعارَالإحتلالِ الإيرانيّ لِلُبنانَ وسيطرةِ حزبِ اللهِ على مفاصل ِ الدولةِ، في أكبرِ كِذْبَةٍ على وجه ِ الأرض التي كانَ بطلَها الأولَ المعتوه فارسُ سعَيد.
إذاً، كُرْهُ المقاومةِ أصبحَ ثقافةً لدى البعضِ منَ المسيحيينَ،من دون ِمُبَرِّرٍ، سوى أَنّهاتُحاربُ المحتلَّ الصهيوني، وهذا ما يرفضونهُ هُم، هكذا تربَّوا ورَبَّوا أبناءَهُم.
هذا الأمرُ ينسحبُ اليومَ على المجتمعِ الذي زادَ فيه التطرُّفُ، وازدادت معهُ الكراهيةُ للشركاءِ في الوطن، مما يُشيرُ إلى أنَّ قوةَ حِزبِ الله هي التي تمنعُ حرباً أهليةً جديدة، وإلّا لَكُنّا عُدْنا إلى عام ١٩٧٥، بكل بساطة.
على عُقلاء المسيحيينَ، وغيرِهم، إقناعُ مُتزعِّمي هذه الأحزابَ، أنّهم لبنانيون، وليسوا غير ذلك،وأن يقرروا أن يتصرّفوا كلبنانيين عرب، وأنّهم ليسوا فينيقيين.
ستبقى المُقاومةُ تحمي لبنانَ واللُّبنانيين،كُلَّ اللُبنانيين،وستبقى شُعلَةَ هذه المقاومة هيَ التي تُنير ُ دربَنا إلى يوم الدين.
عاشتِ المقاومةُ الإسلامية.
وعاشَ لبنان.
بيروت في...
8/9/2023