انتهت قمة مجموعة العشرين في الهند، وتبنى زعماء الوفود بياناً توافقياً, على قاعدة لا رابح ولا خاسر, خصوصاً وأن دول الكتلتين الكبيرتين المتصارعتين حالياً ,علقتا اّمالهما – كل من جهته – على الفوز في نيودلهي, وبغياب زيلينسكي, حضر التسيس بحدوده الدنيا, رغم حضور الملف الأوكراني, لكنه لم يستطع اختطاف الأضواء, وعلى ما يبدو أن نتيجة التعادل, دفعت الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى مغادرة القمة بشكلٍ مبكر, وفضل تسجيل غيابه عن الجلسة الثالثة للقمة بعنوان "مستقبل واحد", وتوجه نحو فيتنام.
في حقيقة الأمر, بذلت الهند جهوداً كبيرة لضمان عقد قمة مجموعة العشرين, في ظل تحت رعايتها القضايا الاقتصادية التي تهم دول العالم الجنوبي بالدرجة الأولى, ومن ثم غالبية دول العالم, كما فتحت أبوابها الجانبية لإحتضان عشرات اللقاءات السياسية الثنائية بين بعض قادة الدول والوفود, وحافظت على التقليد الدولي, واهتمام القادة بالقمم, وبفرص التواجد في مكان واحد, وبعقد لقاءاتٍ مسبقة أو غير مسبقة التحضير.
وبعيداً عن أحلام البعض بإنحياز الهند نحو الكتلة الغربية أو الجنوبية, بدت نيودلهي واثقة من مواقفها السابقة والمعلنة, بكونها غير منحازة لروسيا أو للدول الغربية, واعتبرت القمة في رحابها فرصةً مناسبة, لإعلان نفسها زعيمة لدولٍ عديدة غير معنية بالمشاركة في أي نزاعات جيوسياسية, وتحاول حل مشاكلها بنفسها وعلى طريقتها.
ونجحت نيودلهي بقيادة قمة مجموعة العشرين, في ظل رعايتها القضايا غير المسيسة, أوالأقل تسييساً, على حساب التسييس الذي ملئ الصدور بالغل والكراهية, والأجندات, وفوهات المدافع, واستطاعت دفع القمة نحو التركيز والإقرار بالتحولات التي طرأت على النظام الدولي, كذلك بدفع المطالب والطموحات, والنفوذ الكامن لدول الجنوب العالمي نحو المقدمة, ونجحت بوضع بصمتها وثقلها, لجعل القمة تتوافق بشكل مباشر مع الأهداف والغايات الجماعية المعلنة لمجموعة العشرين.
ومع انتهاء القمة, اختلفت الاّراء والتصريحات حول تقييم بيانها الختامي ما بين الكتلتين المتصارعتين ...
فقد ثمن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف نجاح القمة, وأكد أن المجموعة الاّن تعيش "إصلاحاً داخلياً", ورأى أنها شكلت "نقطة تحول" فيما يتعلق بضمان توازن المصالح في الاقتصاد العالمي, وبأن وحدة مواقف دول العالم الجنوبي في الدفاع عن مصالحها المشروعة، ساهمت بإفشال محاولة دول الغرب "أكرنة" جدول أعمال القمة بأكمله، على حساب مناقشة المشكلات الملحة للبلدان النامية, وشدد على أن "الغرب لن يتمكن من مواصلة خط الهيمنة مع ظهور مراكز جديدة للتنمية العالمية", وسخر لافروف من إدعاءات وسائل الإعلام الغربية, بأن الدول الغربية قدمت إنذاراً نهائياً لروسيا عبر بيان مجموعة العشرين, وقال ساخطاً: "ينشر الناضجون شائعاتٍ لا يمكن أخذها على محمل الجد", مؤكداً أن ذكر أوكرانيا في إعلان القمة، "أتى في سياق ضرورة حل جميع الصراعات الموجودة في العالم".
في حين اضطرت وسائل الإعلام الغربية, بعد صدور البيان الختامي، للهروب والإعتراف بفشل ما كان مخططاً له لجهة تجريم روسيا وإدانتها, واستفاضوا بالحديث عن مهام مجموعة العشرين, في دراسة القضايا الاقتصادية والمشاكل العالمية، وليس عبر التطرق إلى الجوانب السياسية للعلاقات الدولية, في خطوةٍ مهدت للفيسلوف الأوروبي "الرئيس ماكرون", للرد على سؤال أحد الصحفين, بأن البيان الختامي تحدث بحيادية عن أوكرانيا, وشكل هزيمة للغرب ؟ , فأجابه ماكرون: بأن "مجموعة العشرين تضم دولا ذات وجهات نظر مختلفة بشأن العديد من القضايا بما فيها أوكرانيا, وأنه من الخطأ عرقلة اعتماد البيان الختامي لمجرد غياب الإجماع حول أوكرانيا".
من الواضح أن التسوية التي توصلت إليها مجموعة العشرين بشأن أوكرانيا, تشي بما هو أبعد من الإستمرار في دعم أوكرانيا إلى ما لا نهاية, ويمكن إعتباره بمثابة دعوة كييف للصحوة, ومؤشر أولي عن رغبة دول العالم في إنهاء الحرب "القذرة" على روسيا.
أخيراً .... نجحت الهند في التحضير الجيد والمدروس بعناية, وبقيادة قمة متوازنة سياسياً وإقتصادياً, وفي طرح ومناقشة قضايا, المناخ , والغذاء, وأمن الطاقة وغيرها, وتطرقت إلى الصراع الأوكراني من زاوية تجاوزه حدود الأراضي الأوروبية, وعمق تأثيره على قضايا الأمن الغذائي, وسلاسل التوريد، وحياة ملاين البشر في القارة السمراء وغير مكان, واستطاعت مجموعة العشرين بأدائها كسب الثقة والإحترام, متفوقةً على أداء مجموعة السبع, وبمنحها الأمل من خلال إثبات قدراتهاعلى إحداث التغيير الجيوسياسي الذي يحلم به المسالمون في هذا الكوكب, بعيداً عن مخططات تدميره بضغطة واحدة على زر التدمير الكوني.