كتب الأستاذ حليم خاتون:
"العد للعشرة"، قبل أن...
كل ما أمعن الإنسان بالتفكير وإشباع الموضوع درساً، يكون القرار أكثر واقعية، ولكن ليس بالضرورة أكثر مبدئية...
بين الواقع والمبدأ، يجب عدم الضياع...
في المبادئ، هناك قرارات حاسمة جازمة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال الانتقاص من هذه المواقف المبدئية...
لا يوجد كلمة نصف عميل، أو نصف خائن...
إما عميل وخائن، وإما لا...
في هكذا أمور، يكون الموقف حازما جازما بلا تردد...
أقصر الطرق بين نقطتين هي خط مستقيم، لكن الحياة اصعب بكثير من السماح بسلوك هذا الخط المستقيم...
لذا، عند التعرج، أو الخروج عن هذا الخط المستقيم يجب النظر دوما إلى نقطة الهدف أو الغاية...
أي ضبابية، أو اي عدم وضوح في الرؤية سوف يؤدي دائما إلى الضياع والتخبط...
إذا كانت هكذا أمور واضحة جداً في أمور الحياة الفردية البسيطة، فإن هذا المبدأ يستوجب حرصا اكبر بكثير في في الأمور التي تخص المجتمعات أو الشعوب أو الأمم...
في لبنان، الكل منغمس في لعبة العض على الأصابع...
كل فرد، كل مجتمع، كل قوة؛ بما في ذلك القوى الخارجية التي تؤثر وتتأثر بالوضع اللبناني؛
الكل يلعب لعبة عض الأصابع...
في الصراع مع العدو الصهيوني، وضع حزب الله لنفسه هدفاً استراتيجياً يقوم على تحرير الأرض اللبنانية من الإحتلال، كما وضع لنفسه أهدافا استراتيجية أخرى تخص المنطقة، كما تخص انسان هذه المنطقة...
بين نقطة انطلاق المقاومة الوطنية ( الإسلامية) ونقطة تحرير الأرض اللبنانية، رسم حزب الله لنفسه خطا مستقيماً لم يحد عنه قيد أنملة رغم الصدام مع السلطة، ومع المحيط، ومع الشريك في الوطن الذي رغم كل الإدعاءات، لم يكن على قلب واحد من هذه المقاومة...
وصل الأمر بحزب الله إلى خوض حرب إخوة داخل الوطن وداخل الطائفة وداخل المذهب...
هنا كان حزب الله يعض على أصابعه، وكان جمهور المقاومة يعض على الجراح ويتقبل التضحية لأن النقطة الأخيرة، والهدف الاخير لعملية التحرير ظلا ظاهرين طيلة الوقت...
هناك فرق بين جمهور المقاومة وكل الجمهور اللبناني...
لنعترف، لم يكن كل اللبنانيين على قلب واحد مع حزب الله...
كان هناك عملاء...
كان هناك خونة...
كان هناك متخاذلون...
كان هناك من لا يهتم بغير العلف وخبز يومه؛ رغم علم الجميع أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان...
لكن حزب الله، وجمهور حزب الله كان لا يرى إلا الهدف الذي وضعه...
لذلك استطاع حزب الله العض على الجراح واستطاع جمهور حزب الله العض على الجراح والقبول بالتضحية، وتحقق التحرير، والتحرير جزء مهم من النصر...
هل يتكرر الأمر ذاته في مسألة بناء الدولة اللبنانية؟
ما هو الهدف النهائي الذي يريد حزب الله الوصول إليه؟
يطالب السيد نصرالله بالدولة القوية العادلة...
هذا شعار فضفاض...
ما هي الدولة القوية العادلة؟
على اي اساس يكون هناك دولة قوية عادلة؟
كل فئة من جمهور المقاومة تتصور هذه الدولة على مقاساتها...
منهم من يتحدث عن الدولة الوطنية (حاف) هكذا، ومنهم من يتحدث عن الدولة الوطنية المدنية...
لكن الجميع لا يجرؤ على التلفظ بكلمة فصل الدين عن الدولة...
بعض جمهور حزب الله لا يزال يتطلع إلى قيام دولة إسلامية، هو لا يقولها علنا، لكنه يطمح الى هذا...
من حق كل فئة تحديد نوع الدولة القوية العادلة التي تريد...
لكن ليس من حق اي كان فرض رؤيته على الفئات الأخرى...
يقول حزب الله أنه مؤمن بما آمن به السيد موسى الصدر، وهذا يتلخص بمجموعة مبادئ لا تحتمل أي تأويل، أهمها:
١- نهائية الكيان اللبناني
٢- قيام دولة مدنية
٣- اسرائيل شر مطلق
هذه النقاط الثلاثة وحدها تكفي لكي يتخذها حزب الله لنفسه هدفاً مشروعاً...
هي نقاط استراتيجية لمرحلة مهمة من حياة الأمة...
لكن اي انحراف عنها يعني تلقائياً الخروج على مبادئ أساسية في رؤية حزب الله البعيدة...
من اجل هذه المبادئ الثلاث يستطيع حزب الله الدخول في لعبة عض الاصابع بينه وبين خصومه في الداخل وبين اعدائه في الخارج...
لكن لعبة عض الاصابع تستوجب فرض هذه اللعبة على الأطراف الآخرين والا يكون حزب الله وحده من يعاني ويكون جمهور المقاومة هو وحده من يدفع الثمن...
من أجل إجبار الآخرين على الدخول في لعبة عض الأصابع، يتوجب على حزب الله إدخال عامل الخسارة بمرور الوقت على هؤلاء...
هل الأمر على هذا النحو؟
من هي الفئات الأخرى؟
معظم الفئات الداخلية هي قوى طائفية، لها مصالح طائفية ومذهبية...
هل تعاني هذه الأطراف من مرور الزمن دون انتخاب رئيس للجمهورية مثلاً؟
في الاجمال كل القوى الطائفية تخسر الموقع تلو الآخر ويختلط الحابل بالنابل في التوزيع المذهبي للمواقع الأولى في السلطة...
مع كل فجر جديد يسقط موقع من مواقع المحاصصة الطائفية في السلطة...
وهذا شيء جيد...
مع وجود أناس نرجسيين لا يرون أبعد من أنوفهم مثل سمير جعجع أو سامي الجميل أو جبران باسيل، فإن المراقب للوضع اللبناني يستطيع القول إن المواقع الأساسية في السلطة التي تخص المسيحيين سوف تتساقط من دون أدنى شك...
لقد دلت تجربة تحالف سمير جعجع مع أمين الجميل ضد إيلي حبيقة كيف خسر المسيحيون في اتفاق الطائف أكثر بكثير مما قدمه إيلي حبيقة حين تحالف مع السوريين واستطاع فرض ذلك على القوى الطائفية الأخرى...
كما تبين أن هؤلاء القادة في الشارع المسيحي يستطيعون بسهولة عجيبة غريبة عدم التعلم من الأخطاء المميتة التي يقعون فيها...
يوم تحالف ميشال عون وسمير جعجع وأمين الجميل ضد التسوية الأميركية السورية التي تلخصت في شعار مخايل الضاهر أو الفوضى، تحدى هؤلاء هذه التسوية واستطاعوا اقناع الشارع المسيحي النائم على "أُذانه" أنهم انتصروا...
بنظرهم لم يأت مخايل الضاهر...
لكن ما الفرق بين مخايل الضاهر والياس الهراوي أو حتى رينيه معوض؟
لا شيء...
كل ما في الأمر، أن الأمور انتهت بنفي ميشال عون وأمين الجميل إلى الخارج، وسجن سمير جعجع في قبو تحت الأرض...
لم يعد هؤلاء أو اتباعهم إلى الضوء الا حين اختلف الأميركي مع السوري وصار بحاجة إلى أدوات...
هؤلاء ليسوا أكثر من أدوات...
نبش الأميركي في الصندوق، وأخرج منه سمير وميشال واولاد أمين...
دار الدولاب وعدنا الى نفس المربع...
لم يستطع القادة المسيحيون يوما الوقوف ودعم الرئيس الذي عنده حظوظ لكي يكون قوياً في النظام...
كانوا دائما يطعنون به، ويضعفون موقفه أمام القوى الطائفية الأخرى...
فيؤدي كل ذلك إلى خسارة المسيحيين المواقع تلو الأخرى كما يقول محقاً، الصحافي جوزيف ابي فاضل...
هل يزعج هذا الأمر بقية الطوائف؟
ربما لا، رغم الإرباك الذي يحصل في لعبة المحاصصة والتي تؤدي إلى زعزعة هذا النظام العفن...
لكن هذا الأمر مزعج جدا للقوى العلمانية والمدنية التي تريد اخراج كل الطوائف بلا استثناء من السلطة وليس فقط المسيحيين...
ماذا عن القوى الأخرى؟
ماذا عن التقدمي الإشتراكي؟
حتى الآن يبدو هذا الحزب خارج معادلة الخسارة مع مرور الزمن، لأنه ببساطة كما الحرباء، يغير لونه حسب الظروف...
لكن تأثيره في لبنان ليس بتلك القوة...
مجرد تحييد جماعة الحزب الإشتراكي تكفي لانه يحتوي ألغاما قد تنفجر وتؤذي، سواء في فلسطين، أو في سوريا حيث يعتبر ما فعله الشيخ الهجري مثالاً ساطعاً عن الشهية للدولار الأميركي، وإمكانية السير في العمالة...
لم تعد مُثُل سلطان باشا الاطرش، ولا تعاليم كمال جنبلاط منتشرة عند هؤلاء...
على صعيد القوى المحلية ومع الغياب شبه التام لتمثيل الطائفة السنية، يبدو أن الثنائي الشيعي هو القوة الوحيدة التي يمكنها الاستفادة من مرو الوقت...
لكن ماذا عن القوى الخارجية...
أوروبا الغبية في أوكرانيا، لم تكن تشعر بالخطر المحدق بها رغم التحذيرات القبرصية الأخيرة التي تقول إن انهيار لبنان سوف يشكل كارثة نازحين من كل المنطقة إلى أوروبا...
إذا مرور الزمن يجبر الأوروبيين على دفع اثمان...
لذلك ليس من مصلحة أوروبا تمادي الأزمة في لبنان، خاصة إذا ما عاد اللبنانيون إلى رشدهم وتوقف الجيش والقوى الأمنية عن لعب دور الحارس المجاني لبوابات أوروبا البحرية...
الخليجي، بيته من زجاج...
لكنه استطاع تدمير العراق وسوريا وليبيا دون دفع ثمن...
لم يكن الخليج مهتماً حتى لو احترقت هذه البلدان عن بكرة أبيها ومعها لبنان لولا العامل اليمني...
اليمن يقص مضاجع الخليج...
لذلك يجب الضغط على الخليج من بوابة اليمن حتى يتخلى عن عمالته للغرب ويعود لرشده قبل أن تطلق النار على مدنه الزجاجية الهشة...
وحده الأميركي يسود على كل اللعبة وعلى معظم اللاعبين في الطرف المقابل للممانعة؛ وحده الأميركي لا يخاف على مصالحه لأن الثوريين أمثال الدكتور وديع حداد وكارلوس وجورج ابراهيم عبدالله وقاسم سليماني وعماد مغنية قد تم تحييدهم إما بالشهادة أو بالسجون...
إذا أريد للأميركي أن يقلع عن "الخنزرة" التي يمارسها في المنطقة، على أحد ما أن يعود إلى زمن اقتحام بنك اوف اميركا، أو خطف طائرات پان آم... ألا تجدر العودة الى زمن العبوات الناسفة لقواته في سوريا والعراق وحتى داخل المشيخات الخليجية...
الأميركي القبيح لن يتوقف عن الرذالة إلا إذا تم تهديد مصالحه...
حتى اليوم، لا احد يهدد هذه المصالح، بما في ذلك إيران وحزب الله...
إذا أراد حزب الله أن يربح معركة عد الأصابع، عليه أن يجبر الأميركيين على دفع اثمان وليس على محاورته ولو بشكل غير مباشر...
حزب الله يعرف جيدا، كما إيران أين تكمن مصالح أميركا وكيف يمكن تهديدها...
من اجل الوصول إلى انتصارات على الساحة اللبنانية، يجب أن يخسر الأميركيون شيئا ما..
يجب تهديد مصالحهم، ثم اللعب على عامل الزمن...
عندها من المؤكد أن تقوم في لبنان دولة وطنية مدنية قوية عادلة، ومن المؤكد حينها أن يجد الحزب طحينا بعد تلك الجعجعة المملة التي لن تعني شيئاً بعد تأديب الأمريكيين...
حليم خاتون