كتب الأستاذ حليم خاتون:
كان لافتاً تراجع الرئيس بري حين دعى الى حوار لسبعة ايام تنتهي بجلسات انتخاب متتالية مفتوحة...
ببساطة يُلزم هذا الاقتراح كل الأطراف بالذهاب مباشرة إلى انتخابات لا يستطيع مقاطعتها اي طرف بمجرد انتهاء الأيام السبعة وبغض النظر عن نتيجة هذا الحوار...
كان اقتراح الرئيس بري نزول أم الصبي عن الشجرة من أجل منع موت هذا الصبي...
قد يكون السبب في ذلك حشر التيار العوني، ودفعه إلى اتخاذ موقف من اثنين:
إما الاتفاق مع حزب الله والذهاب إلى انتخاب سليمان فرنجية، وهكذا يكون الرئيس بري حقق غايته بإيصال رئيس تيار المردة إلى سدة الرئاسة...
وإما بدفع جبران باسيل إلى الوقوف وراء التقاطع على جهاد أزعور أو غيره مع ما يسمى زورا معارضة، فيتم دق إسفين بين التيار وحزب الله، وتكريس سقوط تفاهم مار مخايل...
وقوع الطلاق بين التيار وحزب الله هو أيضاً ربح صاف للرئيس بري...
في الحالتين يربح الرئيس بري...
قد يستغرب المرء رفض كل الأحزاب المسيحية لهذا الإقتراح، رغم أنه يؤدي مباشرة إلى نجاح أي اسم يتم التقاطع عليه عبر الجلسات المتتالية المفتوحة...
لكن أكثر ما يثير الاستغراب هو موقف جبران باسيل ومعه موقف البطرك الراعي اللذين قبلا دعوة بري ثم تراجعا عن هذا القبول فيما بعد... كأن العصفورة "وشوشت أمرا في آذانهم...
حتى نواب التغيير الذين أعطوا انطباعا أوليا يصر على انتخاب رئيس للجمهورية بأي ثمن، لم يتلقفوا دعوة بري على أنها تشكل مخرجا لحل الأزمة والذهاب فعلا إلى انتخاب رئيس للجمهورية...
هؤلاء جميعاً معروفة مرجعيتهم، ويمكن وضعهم دون أدنى شك في السلة الأميركية، أو اقله السعودية...
هذا يعني أن أميركا لا تريد انتخابات في الوقت الراهن إلا إذا وضعت يدها على البلد بشكل مطلق وألحقت هزيمة واضحة إلى فريق حزب الله...
بما أن أميركا ومعها السعودية يعرفان جيدا استحالة هذا الامر، فإن المنطق يقول إن هناك من يريد دفع الأمور إلى درجة أعلى من التأزم...
هل كان حزب الله على علم بخطوة الرئيس بري التراحعية هذه؟
ممكن...
حزب الله على ما يبدو يريد الذهاب إلى تسوية تبقي اركان النظام كله على طريقة تبويس اللحى، ودون المس لا باتفاق الطائف ولا بما يراه "مكتسبات" الدوحة...
لا يبدو أن حزب الله في وارد دفع الأمور إلى حدود تغيير النظام وتغيير الدستور وملحقاته غير المكتوبة...
لكن لماذا قد تريد أميركا أو السعودية دفع الأزمة إلى آفاق أكبر عبر السير بخيارات اتباعها الانتحارية على الأرض؟
إنها ببساطة استراتيجية أميركا القائمة على خلق شرق أوسط جديد يقوم على إنهاك كافة الدول في أزمات داخلية خانقة من أجل إراحة الكيان في فلسطين المحتلة واعطائه جرعة حياة أخرى بعد أن وقع في أزمة وجودية منذ سقوط نظرية الردع عنده سواء مع لبنان أو مع غزة أو مع الداخل الفلسطيني ذاته الرازح تحت الإحتلال ، وهذا أسوأ ما في الأمر...
"لا تكرهوا أمرا عساه يكون خيرا لكم"...
كما في حرب تموز، وقعت أميركا في شر أعمالها...
أرادت القضاء على حزب الله وخلق شرق أوسط اسرائيلي جديد في تلك الحرب، فانتهت الحرب بانتقال حزب الله إلى تكريس وضعية ردع إقليمية ظهرت آثارها في سوريا واليمن...
خطوة أميركا تلك، والتزام اتباعها في لبنان في مخطط الانتحار الجماعي جعل حزب الله يجهض كل الخطوات الأخرى عبر التشبث مرة أخرى وبقوة أكبر بالمرشح سليمان فرنجية...
كلما امتدت الأزمة، زادت تعقيدا، وزاد ثمن الخروج منها...
أميركا لن تخسر الكثير...
في اسوأ الأحوال من وجهة نظرها، يمكن الذهاب الى اتفاق مع حزب الله على شاكلة ما حصل في الترسيم البحري...
المهم بالنسبة إلى الأميركيين، أمن الكيان الصهيوني حتى لو جاء هذا، وسوف يأتي على حساب "الصيغة" اللبنانية، وعلى حساب أتباعها في لبنان...
في اسوأ الأحوال، من وجهة نظر الأميركيين، سوف نرى سمير جعجع يتوصل مع سليمان فرنجية إلى اتفاق معراب إثنين...
سواء أتى فرنجية أو غيره... ما الفرق طالما أن الفيلم الأميركي الطويل لا يزال على قيد الحياة...
سليمان فرنجية ليس أكثر من رمز أن حزب الله وسوريا انتصروا في الحرب الكونية التي شنت...
هم انتصروا، لكن أميركا لم تهزم...
أميركا كما الفيل الضخم الذي يتلقى آلاف السهام بحجم نملة...
أميركا التي ابتلعت انتصار فيتنام لن "تغص" على جرعة سليمان فرنجية التي لا تمثل اي تهديد لها...
كل المسألة بالنسبة للأميركيين هي الضغط للحصول على أمن أكثر ثباتا للكيان الاسرائيلي، والجماعة هنا، "مثل الاطرش بالزفة"، يرقصون على ألحان الموسيقى الأميركية التي تشبه المزمار الذي يخرج كل هؤلاء من لعبة الوطن التي لا يتقنون لعبها، إلى لعبة الطوائف التي لم تتوقف عن هدم الوطن منذ تأسيس هذا الوطن على اسس غير وطنية...
( لبنان بالنسبة لهؤلاء شركة، وليس وطنا؛ نحن شركاء في شركة وليس في وطن... اليس هذا ما قاله البطريرك الماروني الكاردينال الراعي)...
مسكين ميشال شيحا...
يصرخ من قبره أن لبنان الذي رسمه في خياله إلى زوال...
لبنان القديم قد انتهى فعلاً...
لم ينه لبنان ذلك لا الفلسطينيون ولا السوريون، ولا حتى اللبنانيون...
انهته أميركا نفسها يوم خططت للشرق الأوسط الجديد القائم على مركزية الكيان الاسرائيلي، وكانت كل خطواتها من أجل ذلك...
أميركا التي تخطط ونحن ننفذ، هي من اشعل الحرب الأهلية سنة ٧٥...
تعبير حرب الآخرين على الساحة اللبنانية لا يعني فقط حروب الفلسطينيين أو العرب...
لقد كانت الحرب الأهلية في لبنان حرب الأميركيين ضد أهل المنطقة على الساحة اللبنانية...
فقط الأعمى هو من لا يرى لصالح من جرى، ويجري كل هذا...
انتهت عبقرية بشير الجميل بنصف طبيب يلعب دور جنرال حرب عند الموارنة وينتقل بهم من كارثة إلى كارثة أخرى...
المشكلة أن كوارث الموارنة تجر معها كارثة انتهاء التعددية ليس فقط في لبنان، بل في المنطقة الشامية والعراقية كلها، وربما في كامل الشرق الأوسط...
اليس هذا ربحاً إسرائيليا صافياً؟
هل يحمل حزب الله أي ذنب في ما يحصل؟
نعم، يتحمل حزب الله ذنبا كبيرا لانه رغم الانتصارات التي حققها على الكيان الاسرائيلي، لم يستطع حتى اليوم أن يحول قوة هذه الانتصارات وقوة التحرير العظيمة التي يملكها إلى قوة تحرر من الطوائف والمذاهب لصالح الإنسان في هذه المنطقة...
لعله يجب تذكير حزب الله أن الإنسان يأتي اولا في كل الشرائع، وأن الامام علي سوف يظل ذخراً للإنسانية وليس لمذهب حتى لو التصق هذا المذهب بالامام شكلا، أكثر من المضمون...
الامام علي ثورة قبل أن يكون اي شيء آخر...
الانتصار الحقيقي لاهل هذه المنطقة لا يمكن أن يكون طائفيا ولا مذهبيا ولا حتى دينياً...
الانتصار على أميركا يجب أن يكون إنسانياً، وهذا هو الجوهر الذي لم تعرفه كل الأحزاب في هذه المنطقة...
فتش عن أميركا...
أنها الشيطان الأكبر ضد الإنسانية...
كانت ولا تزال...
حليم خاتون