بالنسبة للتغيير الثقافي في غزة الذي يقصده نتنياهو
المعني بهذا التغيير (قلب ثقافة) الشعب الفلسطيني ليتقبل الصهيونية شريكا أو صديقا، مثلما تقبل اليابانيين والألمان رأٍسمالية الغرب ونموذجهم الليبرالي بعد الحرب العالمية الثانية..
أولا: يفترض نتنياهو أنه انتصر مقدما في غزة، ويلزمه الحديث عن تغير ثقافي، وهذه حماقة سياسية منه تثبت جهله وعدم نضوج النخبة السياسية في إسرائيل، لأن حديثه عن الانقلاب الثقافي لصالح الصهيونية في غزة وقت الحرب وقبل الحسم يشجع خصومه على التضحية والفداء أكثر، وينتبه الفلسطينيون لحجم الخطة الموضوعة وتفاصيلها مما يدفعهم لوضع حواجز معرفية واجتماعية أمام المشروع الصهيوني الجديد..فضلا عن استشعار العالمين العربي والإسلامي لخطورة المشروع مما يلزمه لإجراءات قوية في المقابل..
ثانيا: التغير الثقافي في ألمانيا واليابان حدث بشكل جزئي وناعم وعلى فترات زمنية طويلة، ولم يصرح قادة الغرب بهذا الانقلاب الثقافي وقت الحرب أو بعدها بقليل، فضلا عن تأثير القطبية (السوفيتية والأمريكية) في التأثير على الألمان، بمعنى أن الشعب الألماني أصلا هو خصم ومختلف عن الروس ويفكر بطريقة مغايرة عن الشرق، حتى الاشتراكية الألمانية مختلفة بشكل كبير عن اشتراكية الروس..
هذه القطبية سارعت بتحول الألمان نحو النموذج الأمريكي الليبرالي في زمن الحرب الباردة...وأرجو الانتباه بأن التغير حدث هناك جزئيا، فالكثير من الشعب الألماني يمتلك روح عدوانية تجاه الأمريكيين ولا يثق فيهم، ويمكن ملاحظة ذلك في موقف ألمانيا تجاه أوكرانيا، حيث يتسم بالتردد والاختلاف عن الموقف الأمريكي..
ثالثا: أمريكا لكي تكسب ثقة الألمان قدمت مشروع مارشال لإعمار أوروبا كلها، فهل إسرائيل مستعدة لإنفاق مليارات الدولارات لإعمار غزة؟؟..لا أقول عرب ومسلمين بل إسرائيل تحديدا، فالفلسطيني لن يرى الصهيوني شريكا أو صديقا سوى بعدة إجراءات منها الإعمار، وبنظرة استباقية على سلوك إسرائيل تجاه الفلسطينيين بداخلها، فهي تتعامل معهم في مناطق 48 بشكل عنصري، حيث تستفيد بالضرائب وفائض القيمة الفلسطينية داخل الخط الأخضر، لكنها لا تهتم بهؤلاء العرب والمسلمين من نواحي التوظيف والإدارة والثقة في القيادة..
إنها تعطيهم حقائب وزارية غير مهمة، عضوية كنيست غير مؤثرة، لكن ممنوع على الفلسطيني أو العربي والمسلم عموما أن يحكم إسرائيل أو يكون رأيه نافذا في المؤسسات الأمنية الكبرى (كالدفاع والشاباك والموساد) فضلا عن رئاسة الحكومة، ويدير ذلك نظام انتخابي لصالح يهود الإشكيناز..فإذا كانت إسرائيل بخيلة في الإنفاق على عرب الداخل، فكيف تُنفق على عرب الخارج؟
رابعا: يلزم هذا التغيير الثقافي (حرية علمانية) فالمتغيرات على الشعب الألماني حدثت بفضل تمتع أمريكا آنذاك بالحرية العلمانية وتبرؤها نوعا ما من أيديولوجيات (الحكم الديني) فلو أقدمت أمريكا على تغيير الألمان ثقافيا لصالح البروتستانت سينتفض الكاثوليك الذين يشكلون أغلبية مسيحيين ألمانيا، ولو أقدمت على تغييرهم لصالح "الصهيونية المسيحية" مثلا سينتفض الألمان أيضا ويرفضوا هذا الخطر الذي يتهددهم باعتبار أن الألمان ينظرون للصهيومسيحية على أنها أيديولوجيا دينية للأنجلوساكسون، وهي خصيصة للمجتمع الإنجيلي البروتستانتي لا الكاثوليكي..
المنطق هنا يقول أن إقدام صهيوني متعصب كنتنياهو على تغيير شعب غزة ثقافيا لصالح أيديولوجيته (مستحيل) لعدة أسباب أبرزها أن الأيديولوجيا الشائعة في غزة إسلام سياسي وقومية عربية وهي أفكار معادية بشكل شرس للصهيونية، فنحن أمام صراع حضاري أيديولوجي يغيب فيه عامل الثقة، فلا فرصة لتغيير ثقافي يلزمه الحد الأدنى من الثقة المفقودة..
خامسا: التغير الثقافي في غزة يلزمه إجراءات اقتصادية كرفع الحصار وفتح الموانئ والمطارات ودخول الرأسمال الأجنبي ممثلا في شركات متعددة الجنسيات إضافة للسوق الفلسطينية الحرة، وهذا مستحيل حدوثه قبل إعلان الدولة الفلسطينية، فأي حديث عن تغير ثقافي قبل إعلان الدولة وحدودها وهويتها ودستورها مجرد (عبث)..
إلا لو يقصد نتنياهو تطبيق الخطة الصينية في إقليم شنغيانغ، حيث يقوم الحزب الشيوعي الصيني برعاية وتأسيس مدارس للمسلمين الإيجور هي أقرب للسجون المُكبّرة، تقوم في جوهرها على تدريس ثقافة مختلفة للإيجور كي يتقبلوا (شعب الهان) وأصحاب الديانات (البوذية والكونفوشيوسية والطاوية) ومحاربة أيديولوجيا الإسلام السياسي التي يرعاها الغرب في الإقليم والمُعادية للهان والبوذيين وسائر الديانات الصينية..
وعلى فرض حدوث هذه القصدية فبناء هذه المعتقلات/ المدارس يلزمه (سنوات طويلة من الاستقرار) ووقف تام للحروب وكل أشكال الصراع السياسي والعسكري بين الصهاينة والفلسطينيين لتهيئة التربة الغزاوية لقبول المعتقد الجديد، وبالنظر لتاريخ إسرائيل فهو تاريخ حربي لا يتوقف، وطوارئ بشكل مستمر، فلو نجحت إسرائيل بعزل غزة عن طريق تلك المدارس في ظل صراعها السياسي والعسكري مع دول المحيط فالشُعاع الثقافي العربي والإسلامي لهذا المحيط كاف لإفشال ذلك المشروع، لأن الثقافة عابرة للحدود خصوصا في عصر السوشال ميديا التي يصبح فيها القول (بالتغير الثقافي الإجباري) مجرد عبث وجهل مستحيل حدوثه..
سادسا وأخيرا: هذا المشروع الصهيوني لنتنياهو والذي يستهدف قلب ثقافة الفلسطينيين لم يطرح لأول مرة، بل سبق طرحه بعدة أسماء منها (الشرق الأوسط الكبير- الدين الإبراهيمي – صفقة القرن) وكلها مشاريع أمريكية وصهيونية باءت بالفشل..
مشروع الدين الإبراهيمي رغم أن ظاهره السماحة لكن في جوهره كان يهدف لقبول الاحتلال الصهيوني وإغلاق ملف اللاجئين وحق العودة، عن طريق تبني سردية (اليهودي هو الصهيوني) فتصبح أي دعوة لقبول اليهودي لصالح الصهيونية..وهذا الخلط المفاهيمي كنت من الذين شاركوا بفضحه منذ البداية ، وقلت أن مشروع كوشنر يتجاوز فكرة التسامح الديني ولا يؤمن بها، بل يهدف لترسيخ الاحتلال تحت عناوين براقة..
أما الشرق الأوسط الكبير فكان مشروعا صهيونيا أمريكيا يهدف لإشعال الحروب بالشرق الأوسط وإعادة تشكيله على أسس طائفية عرقية، يميل بعض العرب فيه لإسرائيل عاطفيا من فرط كراهيته لأخيه..والميل العاطفي هو مقدمة لأي ميول من أنواع أخرى سواء سياسية أو ثقافية، تصبح بعدها الصهيونية فكرة صديقة ورديفة للإسلام والعروبة، ونحن نشهد حاليا نهاية لذلك المشروع بانتفاضة ليست فقط عربية وإسلامية بل عالمية كبرى ضد إسرائيل والصهيونية وتشبيه هذه الكيانات والمعتقدات بالداعشية والنازية،