ليست المرة الأولى التي نتحدث فيها عن محاولات العدو الأمريكي لاستخدام أدواته ليستمر كقطب أوحد في العالم، خاصة مع الصعود الروسي والصيني في السنوات الأخيرة وزعزعة مكانته الدولية مما أدى إلى فقدان جزء من هيمنته ونفوذه الذي ظل يتمتع به لثلاثة عقود كاملة، منذ انهيار الاتحاد السوفيتي في مطلع التسعينيات من القرن العشرين وانتهاء الحرب الباردة، وتشكل نظام عالمي جديد أحادي القطبية، على أنقاض النظام العالمي السابق عليه والذي كان ثنائي القطبية بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، وكان هذا النظام قد تشكل في أعقاب الحرب العالمية الثانية حيث إنهار النظام الاستعماري القديم الذي كان نظاماً مشتركاً تتقاسمه إنجلترا وفرنسا بشكل أساسي، ولم تكن الولايات المتحدة الأمريكية قد ظهرت بعد كقوى استعمارية كبيرة لها وزنها على الساحة الدولية.
وقد بدأت معالم الانقلاب على النظام العالمي الجديد الأحادي القطبية الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية منفردة، بعد مرور عقدين كاملين على انفرادها بالساحة الدولية ففي العام ٢٠٠٩ تم انعقاد أول قمة لتجمع بريك وكانت تضم رؤساء أربع دول هم البرازيل وروسيا والهند والصين قبل أن تتحول لتجمع بريكس بعد انضمام جنوب أفريقيا، وخلال هذه القمة الأولى للتجمع تم الإعلان عن تأسيس نظام عالمي جديد ثنائي القطبية، وكان ذلك إشارة إلى أن تجمع بريك سيكون في مواجهة قطبية مع تجمع الدول السبع الكبار الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية وتضم معها كندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان وبريطانيا، وبالطبع اعتبرت الولايات المتحدة الأمريكية هذه الخطوة بمثابة إعلان حرب جديدة عليها.
وخلال العقد التالي لإعلان بريك بدأت حرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة الأمريكية وخصومها الجدد في مجموعة بريكس وفي مقدمتهم روسيا والصين الأكثر خطورة وتهديداً للنفوذ الأمريكي، فوجدنا روسيا والصين يتدخلان في مناطق نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية خاصة في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا، وكان العدو الأمريكي قد أطلق مشروعه ومخططه التقسيمي والتفتيتي لهذه المنطقة والذي عرف إعلامياً بمشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد، ومع إطلاق شرارة الربيع العربي المزعوم وبداية سقوط الأنظمة العربية في تونس ومصر وليبيا واليمن، جاء التدخل الروسي في سورية والتي كانت هدفاً استراتيجياً للمشروع، وتمكنت روسيا ومعها الصين في بعض الأحيان من إفشال المشروع على الأرض العربية السورية، وكانت معركة تكسير عظام على المستوى العسكري والسياسي، فميدانيا وقفت روسيا بجوار سورية ومكنتها من تجفيف منابع الإرهاب المدعوم أمريكيا، وسياسيا كان الفيتو الروسي وأحياناَ الروسي والصيني جاهزاً دائماَ في مجلس الأمن لمنع أي تدخل عسكري أمريكي مباشر.
وبالطبع انتهت الحرب في سورية رغم ما خلفته من دمار لصالح مشروع التعددية القطبية، استطاعت روسيا ومعها الصين أن يقولا للولايات المتحدة الأمريكية أنهما شريكان جديدان لها على الساحة الدولية، وبدأت الأصوات تعلوا عبر المنابر الإعلامية المختلفة حول العالم لتقول أننا في انتظار ولادة خريطة دولية جديدة متعددة الأقطاب في إشارة واضحة للصعود الروسي والصيني، وفي هذه الأثناء بدأت دول المنطقة التي كانت متحالفة مع العدو الأمريكي بشكل كامل وتمنحه أراضيها لإقامة قواعده العسكرية بحجة حمياتهم، تحول وجهتها وتغير سياساتها فشاهدنا زيارات متبادلة بين عواصم دول المنطقة وموسكو وبكين، وتوج ذلك بالمصالحة السعودية – الإيرانية غير المتوقعة برعاية صينية، ولم تقف المسألة عند هذا الحد بل أعلن عن توقيع العديد من الاتفاقيات للتعاون الاقتصادي بين دول المنطقة وروسيا والصين، كان أبرزها ضم كلاً من السعودية والإمارات ومصر وإيران لمجموعة بريكس، فهل يصمت العدو الأمريكي ويقف متفرجاً أمام هذا التهديد لمكانته الدولية ؟!.
بالطبع لا فقد قرر العدو الأمريكي أن يستخدم كل أدواته ونفوذه لمنع ولادة نظام عالمي جديد ثنائي القطبية أو متعدد الأقطاب، ففي منطقة الشرق الأوسط لازال يشعل النيران عبر أدواته الإرهابية مرة، وعبر الورقة الطائفية والمذهبية والعرقية مرة ثانية، وأخيراً عبر دعمه للعدو الصهيوني أحد أهم أدواته العدوانية المزروعة في منطقتنا، فكان العدوان على غزة والذي سرق الأنظار من كل الأحداث حيث تركزت الآلة الإعلامية الجهنمية الجبارة التي تمتلكها الولايات المتحدة الأمريكية - وتستخدمها كأداة فاعلة في تزييف وعي العقل الجمعي العالمي - على الحدث لتعطل كل حديث عن أي أخبار أخرى وتظل مفاتيح وقف هذه الحرب في يد العدو الأمريكي وحده، وبالطبع كان العدو الأمريكي قد أشعل النيران في أوكرانيا ليورط روسيا في حرب استنزافية ليبعدها عن المنافسة على الساحة الدولية، ونفس الشيء بالنسبة للصين حيث هدد باستخدام ورقة تايوان، وبالطبع لم ينسى العدو الأمريكي النفوذ المتمدد لروسيا والصين في إفريقيا فأشعل النيران في السودان ومن قبلها مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وفي ظل هذه النيران المشتعلة والمتعددة على الخريطة الدولية يعتقد العدو الأمريكي أنه يمنع ولادة نظام عالمي جديد متعدد الاقطاب، وتظل القطبية الأحادية هي سيادة الموقف، وبالطبع لابد من تحرك وتدخل روسي وصيني حاسم في هذه الملفات، فإطفاء النيران المشتعلة وحدها كفيلة بإعلان الانتصار وإنهاء اسطورة الأحادية القطبية، اللهم بلغت اللهم فاشهد.
بقلم / د. محمد سيد أحمد