حين تغضب الطبيعة وتقوم بفوضاها العارمة لا تاخذ بالحسبان ما سيحل بالاحياء وما سيلاقونه من هلاك ودمار .اذا ما حل الجفاف في ارض فانه يقوم بعملية تطهير عرقي للبشر والحيوانات وتموت الاشجار واقفة ويرحل البشر مع حيواناتهم الى مواطن اخرى.من حسنات التطهير والتهجير الطبيعي اختلاط الاقوام وتلاقحها عرقيا وثقافيا وحضاريا منتجة اقواما وثقافات جديدة.عندما ندرس تاريخ هذه الهجرات والعوامل الطبيعية التي ادت اليها فاننا لا نلوم الطبيعة على ما قامت به بل تحفزنا ان نعرف علميا اسباب غضبها.
لم يسجل التاريخ ان الشعوب والاقوام الذين اجبرتهم الطبيعة على الهجرة والنزوح ان حلوا بارض اقوام اخرى وخاضوا ضدها حروب تطهير عرقي وابادة جماعية.
ان تناحر الشعوب والامم الاوروبية فيما بينها على اسس دينية ومذهبية ومن بعد ذلك على انماط ونظم الانتاج بين الاقطاع المتحالف مع الكنيسة والصناعي خرجت من قلب القارة الاوروبية حملات الاستكشاف الجغرافي التي مهدت الطريق لحملات الاستعمار والاستيطان.كانت الامريكتين وافريقيا محطات كبرى للاستعمار الاستيطاني .لم تسلم اسيا من الاستعمار لكنها لم تشهد استيطانا اجلائيا.
ارتكب الرجل الابيض في امريكا الشمالية بشكل خاص اكبر وابشع وافظع عملية تطهير عرقي عبر الابادة الجماعية ضد السكان الاصليين (( الهنود الحمر)) راح ضحيتها عشرات الملايين المسالمين والابرياء الذين لم يعرفوا من الاسلحة الا اسلحة الصيد الذي كان مصدر عيشهم الى جانب ما تغدقه الطبيعة من المنتجات الزراعية.بعد ان ارتوت الارض بدمائهم قام الرجل الابيض بعملية تطهير عرقي في افريقيا ونقل الملايين بالسفن الى امريكا كعبيد يكدون ويكدحون في المزارع ولاحقا في المصانع.وسقيت الارض الامريكية بعرقهم ودمائهم.
في النهاية تكرم الرجل الابيض وقام بعمل بعض المحميات للسكان الاصليين شبيهة بحدائق الحيوان .يذهب اليها الزوار ليقضوا اوقاتا ممتعة.قامت السينما الامريكية بانتاج عشرات بل مئات الافلام عن حركة الاستيطان في امريكا وكلها دون استثناء صورت لنا وحشية واجرام الهندي الاحمر ضد المستوطنين الابرياء المسالمين.نسي العالم او تناسى كل المجازرالتي اودت بحياة الملايين من الهنود الحمر والعبيد الافريقيين .صارت امريكا محط انظار الحالمين بالعيش الرغيد وبلد الفرص وتحقيق الاحلام.
اليس هذا اعترافا وقبولا من المجتمع البشري بالابادة الجماعية والتطهير العرقي؟.
هنا في المشرق العربي عشرات المخيمات للاجئين الفلسطينيين في المملكة الاردنية الهاشمية بضفتيها الشرقية والغربية سابقا وشرقها حاليا وفي سورية ولبنان وقطاع غزة حين كان تحت الادارة المصرية والذين استقروا في مصر والعراق .حتى الفلسطينيين المتملكين في الاردن حيث يتمتعون بالمواطنة ولهم منازلهم وتجارتهم ومصانعهم وبنوكهم ومزارعهم كل هذه الملايين تم تهجيرها من فلسطين من خلال المجازر المتعددة وعمليات التطهير العرقي والتهديد بالمزيد من المجازر.
عندما يمر الانسان على هذه المخيمات لا يرى الا انها مصدر للايدي العاملة الرخيصة وسوقا واسعةاما
كيف حطوا بهذه المنافي بعيدا عن مدنهم وقراهم التي فارقوها كرها فليس هناك من يبالي.ولا احد من قاع الهرم الرسمي الى راسه يفكر جديا ويخطط عمليا لعودتهم الى ديارهم على الرغم من وجود قرارات لمجلس الامن الدولي التي تنص على ذلك ولا تسقط بالتقادم مهما طال الزمن.
اليس كل هذا قبولا وتساكنا مع التطهير العرقي والابادة الجماعية وطمس الهوية؟.
هل ما يجري في قطاع غزة من مجازر وتطهير عرقي وترحيل سكانه من شماله الى جنوبه ومن ثم الى سيناء ان امكن هو شيئ مستجد ومستحدث؟.
اليس الاستيطان ومصادرة الاراضي في الضفة الغربية تطهيرا عرقيا؟.
لقد خلق الله الكون بكلمة(( ..في البدء كانت الكلمة..))كانت درسا وعبرة للانسان اذا اراد ان يقوم بعمل ان يضع له فكرا وتصورا(( ايديولوجيا)) تكون في الروح والوجدان لا محسوسة ولا ملموسة ثم العمل الجاد لتحويل اللامحسوس الى واقع مجسد وملموس.اذا ما اسقطنا هذه المقدمة على ما قام به ثيودور هيرتزل الاب الروحي للحركة الصهيونية حين وضع الفكرة وقدمها في كتابه(( جودين ستيت)) الدولة اليهودية في سبعينيات القرن التاسع عشر ودأب على بناء هياكل تنظيمية فاعلة وذات نفوذ في مجتمعاتهاوتوجت بالمؤتمرات الصهيونية المتعاقبة من اجل اقامة دولة يهودية في فلسطين .سعت الحركة الصهيونية سعيا حثيثا ومتواصلا على كافة الاصعدة والمستويات من اجل تجسيد الهدف والفكرة واهم انجازاتها وعد بلفور ووضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني صاحبة مشروع القاعدة المتقدمة في الاقليم.
اريد ان اذكر القارئ بالخطوات العملية التي نفذتها الحركة الصهيونية ايام الانتداب ولم تعتمد على بريطانيا ولم تركن الى وعودها بل راحت تعد وتدرب عصابات مسلحة من المستوطنين لتكون اداتها العملية في تجسيد الفكرة الصهيونية ومشروع الكيان.اهم هذه العصابات الارغون وستيرين والهاجانا.انشقت الارغون عن الهاجانا عام ١٩٣١ وفي عام ١٩٤٠ تولى مناحيم بيجين قيادتها .طور مناحيم بيجين سياسة الارغون الارهابية واخذ يهاجم قوات الانتداب البريطانية ليسرع في رحيلها من فلسطين فيما شكلت ستيرين راس الحربة لعصابة الارغون. في عام ١٩٤١ اعدت القيادة الصهيونية وحدات كوماندوز (( البالماخ)) من الذين خدموا في الجيش البريطاني لمقاتلة القوات النازية في حال وصول جيوشها الى فلسطين.في عام ١٩٣١ شكلت القيادة الصهيونية قوات احتياط (( حراس الميدان )) " هيش" بالعبرية.قامت عصابة الهاجانا بتاسيس وحدة استخبارات للتجسس على سلطات الانتداب والمؤسسات العربية داخل فلسطين وخارجها.ان اخطر المهمات التي قامت بها كانت عمل ملفات لكل القرى والبلدات الفلسطينية شملت عدد السكان والاسماء والمهن والحمايل التي ينتمون اليها والوجهاء والمقاومين ومصادر المياه والكهوف الخ.بعد قيام دولة الكيان اعدمت ميدانيا كل مقاوم ورد اسمه في ملفاتها.
في عام ١٩٤٨ عام النكبة الفلسطينية توحدت العصابات الصهيونية في جيش مقاتل وبعد صدور قرار التقسيم في ٢٩ تشرين الثاني/ نوفمبر ١٩٤٧ بدأت عمليات التطهير العرقي الممنهج في فلسطين.في شهر كانون الاول/ ديسمبر ١٩٤٧ شنت العصابات الصهيونية المسلحة هجمات متتالية على بعض القرى والبلدات ادت الى تهجير ٧٥ الف فلسطيني .في التاسع من كانون الثاني/ يناير ١٩٤٨ دخلت قوات المتطوعون العرب ( الف متطوع وبعد بضعة اشهر ارتفع العدد الى ثلاثة الاف)باسلحة قديمة واشتبكت مع قوات العصابات الصهيونية في معارك صغيرة على الطرق والممرات المؤدية الى المستعمرات البعيدة والمعزولة.في تلك المرحلة غيرت العصابات الصهيونية من تكتيكاتها التي تقوم على ردود الافعال الى عمليات التطهير العرقي وارتكاب المذابح وارغام الامنين على النزوح.اقدمت على تطهير خمسة بلدات من ساكنيها في يوم واحد.في العاشر من اذار/ مارس تم استهداف المدن الرئيسية والسيطرة عليها في نهاية شهر نيسان/ ابريل وتم تهجير ٢٥٠ الف( ربع مليون ) مواطن. من خلال عمليات التطهير العرقي والمذابح مثل مذبحة دير ياسين ومذابح اللد والرملة.في اخر يوم من شهر نيسان/ ابريل ١٩٤٨ قررت الجامعة العربية التدخل العسكري في ١٥ ايار/ مايو ( اي بعد ان ينتهي الانتداب البريطاني على فلسطين) .والذي اعقبه بشكل مباشر اعلان الوكالة اليهودية قيام دولة الكيان على ارض فلسطينواعترفت بها امريكا والاتحاد السوفياتي في نفس اليوم.دخلت القوات العربية بعد ذلك وصار دخولها اعتداءا على دولة مستقلة من حقها ان تدافع عن نفسها فوسعت سيطرتها من ٥٦% الى ٧٨% من مساحة فلسطين.
هل يستوعب الفلسطينيون وخاصة اللاهثون وراء حل الدولتين ومعهم النظام العربي استحالة تنازل الكيان عن حفنة تراب من ارض فلسطين؟
ان اكثر ما كان يقلق بن غوريون والقيادة الصهيونية هو شبح التوازن الديموغرافي بين اليهود والعرب ولطرد هذا الشبح تبنت دولة الكيان وما زالت استراتيجية التطهير العرقي والمجازر بحق الفلسطينيين .ما نشهده الان في قطاع غزة بشكل خاص وفلسطين بشكل عام هو استمرار لهذه الاستراتيجية .انها ليست سياسة ما يسمى باليمين المتطرف انها ركن من اركان بقاء الكيان واستمرار وجوده ككيان عنصري توسعي يقوم بوظيفة القاعدة المتقدمة للاستعمار العالمي وعلى راسه امريكا.
ان النظام العربي الذي وقف متفرجا بل وبعضه مشاركا في النكبة التي حلت بالشعب الفلسطيني والجامعة العربية العتيدة التي فقدت مبرر وجودها وانحصر دورها في المشاركة في مشاريع التفتيت والتجزئة ومحاربة الدول الداعمة للمقاومة.
انغمست بعض الدول العربية في الاندماج والتماهي مع المشروع الصهيو- امريكي وراحت تطبع وتنسق وتتعاون مع الكيان والدخول في صفقة القرن .رغم كل الانجازات التي حققها الكيان من اجهاظ نتائج حرب تشرين الاول / اوكتوبر المجيدة بجر مصر الى كامب ديفيد واخراج او خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان وتخلي قيادتها عن الميثاق الوطني وتوقيع اتفاق اوسلوالا انه بقي ما يهدد امن الكيان ووجوده وهو يدرك ذلك جيدا ( فكر وايديولوجيا المقاومة ) التي اخذت في التجسد واقعيا على ارض لبنان وانتقلت من الروح والوجدان الى قوة فاعلة في الميدان.اجمعت كل القوى الرجعية العربية والكيان والاطلسي على وأد المقاومة في لبنان الا انها افلتت من شباكهم وانجزت تحرير الجنوب المحتل دون قيد او شرط وكان الفرار تحت النار. حاولت نفس القوى ان تعيد الكرة مرة اخرى في تموز/ يوليو ٢٠٠٦ الا ان جيش الكيان مني بهزيمة نكراء.تكررت المحاولات عدة مرات بواسطة المتصهينين العرب في لبنان وخارجه ولم يحققوا شيئا.
وقع الكيان واعوانه وحلفاؤه بين مطرقة النمو الديموغرافي في فلسطين وبين سنديان فكر وثقافة المقاومة التي تجسدت عملاقا وماردا اسمه محور المقاومة. في عملية طوفان الاقصى صرع ماردها(( انكيدو)) المارد الصهيوني (( همبابا)) الذي اكتشف ان غابة الارز ليست ارض الخلود كذلك اكتشف ان الكيان اوهن من بيت العنكبوت وبدل ان يجمع خشب الارز صار في ارض غزة العز يجمع حطام الميركافا.
م/ زياد ابو الرجا