أوقات عصيبة شهدتها مؤخراً ستة دولٍ في القارة السمراء, وبدا المشهد وكأن عجلة الإنقلابات تتدحرج وتنتقل خلال ثلاث سنوات من الغابون إلى النيجر وبوركينا فاسو وغينيا وتشاد ومالي, دولٌ عانت لسنوات من السطوة الفرنسية المباشرة, وكادت شعوبها تنسى أصولها وهويتها, وتحولت إلى دول منهوبة وشعوب تابعة للإمبراطورية الفرنسية وناطقة بلغتها, عصورٌ من الاحتلال والإذلال والتحكم بمصير البلاد والعباد, وسلب الإرادة, تلونت فيها سماء السلطة فيها ما بين النخب الطائعة ومئات المستفيدين والمهللين دائماً وأبداً للهيمنة والإرادة الفرنسية, غابت فيها اّذان من ينصتون لأنين الشعوب الغيورة والساعية لإسترداد كرامتها وحريتها, وإدارة شؤونها بنفسها, وحماية ثرواتها , والبحث مجدداً عن مكانتها بين أمم وشعوب الأرض.
لن يكون من السهل التخلص من قيودٍ كبلت أيادي أحرار تلك الدول, الأمر الذي يفرض تمايزاً وخصوصيةً وضعت مصير الغابون وتشاد موضع نقاش قد يطول, على وقع الإرتباك الدولة الفرنسية, ونشر المئات من جنودها في النيجر, وإعادة إنسحابها أمام الإحتجاجات الشعبية القوية, في حين بدا الحال والمشهد مختلفان تماماً في الدول الأربعة الأخرى, بعدما زينت الأعلام الروسية وصور قادة الإنقلابات العسكرية الساحات والخرائط , من تشاد في قلب منطقة الساحل, إلى السنغال في غربها, على مرأى ومسمع العالم, في مشهدٍ انفرد فيه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالنظر إلى عمقه, وهو يرى تقهقر النفوذ الفرنسي هناك, وإصابة السمعة والمصالح الفرنسيتين بمقتل, يا لها من مصيبة وحمى رفعت حرارة جبين ماكرون, وفضحت ألمه والحشرجة في حنجرته, وتمنى لو تنشق الأرض وتبتلع روسيا وقيصرها العتيد فلاديمير بوتين, فلن يجد ماكرون شماعةً أكثر قوة من تحميل روسيا والرئيس بوتين نتائج الإحتلال والهيمنة الفرنسية على حياة ومصير شعوبٍ بأكملها, وتاّكل الدور الفرنسي في القارة السمراء.
لكن المشهد في السنغال يحمل الكثير من الخصوصية والتأثير, في وقتٍ تعتبر فيه السنغال بوابة "إفريقيا الفرنسية", على الرغم من الاستقرار النسبي الذي حافظت عليه لعقود مقارنةً بأخواتها الأفريقيات، مع القليل من الثورات أو الحروب الأهلية، والإضطرابات كأحداث منطقة كازامانس، ما بين الإنفصاليين والسلطويين منذ ثمانينيات القرن الماضي حتى اليوم, في مشهدٍ مؤسفٍ يعكس غياب الديمقراطية لأجل احتفاظ فرنسا بنفوذها ومصالحها, وهي التي تدعي الديمقراطية.
لا يمكن مقارنة الديمقراطية وتداول السلطة في فرنسا وتعاقب عشرة رؤساء منذ تأسيس الجمهورية الخامسة بدءاً من حكم الرئيس شارل ديغول 1958 حتى اليوم, بتعاقب أربعة رؤساء في السنغال منذ إستقلالها عام 1960, وهي الخاضعة للهيمنة الفرنسية, حتى بعد نيلها إستقلالها منذ 64 عاماً , فتعاقب كلٌ من ليوبولد سيدار سنغور, عبد الله واد, ماكي سال, وباسيرو جوماي فاي الذي تم تنصيبه مؤخراً في 2 نيسان 2024, بعد إعلان المجلس الدستوري تسميته رئيساً للبلاد, وهو صاحب الـ 44 عاماً, الذي وعد بتحرير البلاد من التبعية, وبإصدار عملة وطنية جديدة, والحد من الفساد, وبتأمين فرص العمل والرغيف للمواطنين, لكنه واجه الإعتقال والسجن بعدما لمع نجمه والتفاف الجماهير حوله, وتم الإفراج عنه قبل عشرة أيام فقط من الانتخابات في 24 اّذار الماضي, بعفو عام أصدره الرئيس ماكي سال المنتهية ولايته.
لقد استفاد فاي من شعبيته, ومن علو كعب السياسي المخضرم عثمان سونكو, وهو الذي يحظى بقبول وشعبية واسعة في الشارع السنغالي, ويرى فيه خصومه بأنه محسوب على التيار الإسلامي, وهو الذي سبق له الترشح مرتين للرئاسة وكان قريباً من الفوز بها عام 2019, ولاحقاً تم سجنه عام 2021 لأسباب سياسية, وصدر بحقه عام 2023حكمٌ بالسجن لمدة عامين, لكن الرئيس فاي المنتخب حديثاً, سارع إلى تعيينه رئيساً للوزراء في حكومته الجديدة, بما يشي بتحالف قوي يجمع الرجلين, ويعد بتغييراتٍ جذرية في بنية النظام السياسي في السنغال.
لم تكن أجواء الإليزيه سعيدة وهي ترى فاي يحصد 54.28% من الأصوات في الجولة, مقابل حصول المرشح لمنافسه أمادوبا المدعوم فرنسياً , على 35.79% من الأصوات, واتجهت الأنظار مباشرةً نحو مستقبل العلاقات الفرنسية مع السنغال, لكن ما حصل قد حصل, وسارع الرئيس ماكرون لتهنئة الرئيس فاي, وسط إهتمام كبير للصحافة الفرنسية للحوار بين الرئيسين, والحديث عن تعميق العلاقات الثنائية بين البلدين, على الرغم من إدراك الفرنسيين بأن الإتجاه الواضح للرئيس فاي ورئيس وزرائه, يشير إلى رغبتهما الحازمة لإتباع سياسة سيادية، تتحدى النفوذ الفرنسي, وتسعى إلى علاقة أكثر إنصافاً وتكافؤاً بين البلدين, خصوصاً بعد تعهدات فاي في ثاني خطاباته بعد التنصيب, في ذكرى الإستقلال الرابعة والستين, "بإجراء إعادة التدقيق في قطاعات المعادن والنفط والغاز".
إن الوعود الانتخابية للرئيس فاي, بالعودة الجدية لمراجعة الشروط وبنود إتفاقيات الغاز, والعقود الكثيرة الموقعة بين السنغال والشركات الإستثمارية الفرنسية, واحتمالية تعديل أياً منها تحت عنوان المصلحة العليا للبلاد, أثارت مخاوف الإدارة الفرنسية والرئيس ماكرون على حدٍ سواء, وسط الخشية من توجيه القيادة السنغالية الجديدة تحية الوداع لفرنسا.
من الواضح أن القيادة السنغالية الجديدة,تتجه نحو اتباع سياسة سيادية، قادرة على تحقيق وضمان أكبر قدر ممكن من الإستقلال المالي والإقتصادي والسياسي للبلاد, عبر نهجٍ تقدمي تغييري حكيم, يحافظ على أي إنجاز تم تحقيقه منذ الإستقلال, وعليه قد يكون استهداف "الفرنك الإفريقي" الذي فرضته فرنسا، أمراً محتملاً بقوة, لما يشكله من عقبة أمام التنمية الإقتصادية المنشودة، ويحد من قدرة السنغال التنافسية في الأسواق الدولية, ويسمح لفرنسا وللإتحاد الأوروبي الإستمرار بالحصول على فوائد اقتصادية كبيرة على حساب السنغال، ويدفع للسؤال عن أهمية ترحيب الإعلام الفرنسي بالحوار وتعميق العلاقات, وليس على حسن النوايا الفرنسية, والتركيز على إصلاح الخلل في العلاقات الثنائية أولاً.
من الأهمية بمكان, أن تقرأ الإدارة الفرنسية, إنتقاد رئيس الوزراء عثمان سونكو العلني لسياسة فرنسا تجاه السنغال, وهو الذي وصفها بـ "السياسة القمعية المستمرة للحد من إحراز تقدمٍ حقيقي في البلاد", وكذلك دعوته "لإنهاء الحكم الفرنسي" , والرغبة في استكمال الإستقلال.
لا بد لفرنسا – ماكرون , الرضوخ أمام حقيقة انتهاء مرحلة الإستعمار في أفريقيا وحول العالم, والإلتفات نحو احترام إرادة الشعوب في مستعمراتها السابقة والحالية, وسعيها لإختيار مسارها ومستقبلها ومصيرها, بعيداً عن سلوكية القرصنة, واستخدام النفوذ والقوة العسكرية, والإرهاب السياسي والإقتصادي, والإعتماد على العملاء, والإبتعاد في الوقت ذاته عن أوهام التاّمر والتخطيط الروسي المباشر, لإستهداف فرنسا وإضعاف نفوذها ومصالحها في أفريقيا, وبتحميل المسؤولية الحقيقة للذهنية الفرنسية, وساكني قصر الإليزيه, في وقتٍ أبدع فيه الفرنسيون في التعبير الشهير بقولهم: "qui sème le vent récolte la tempête - من يزرع الريح يحصد العاصفة".
م. ميشال كلاغاصي
6/4/2024