العلاقة بين الأجور والكثافة السكانية هي أساس العلاقة بين (العامل والشركة) والذين ينظم هذه العلاقة هو قانون العرض والطلب، فكلما كان المعروض من العمالة كثيرا والطلب عليه قليل (انخفض ثمنه) والعامل هنا مجرد سلعة يجري تداولها وفقا لآليات السوق..
يعني إيه؟
يعني لو شركة قوامها 1000 عامل، بينما السوق يحتوي على 20،000 هنا المعروض في سوق العمال أكبر بكثير من الحاجة، فالطلب ينخفض بالنسبة للمعروض ويكون التصرف التلقائي عدم المزايدة على الأجور لضمان وجود العامل أصلا تحت أي ظرف..
قوانين السوق لا ترحم..وهي غريزة طبيعية إنسانية منذ فجر التاريخ..
في مصر مثلا..نشأت أزمة في بداية السبعينات جراء سياسات الانفتاح على الرأسمالية، وكان من أعراض هذه الأزمة (الهجرة من الريف إلى المدن) فارتفعت كثافة المدن السكانية وأصبحت معسكرات استقبال للمهاجرين والفلاحين لسبب وحيد..وهو أن المدن كانت تعطي أجورا أعلى خصوصا لأصحاب الشهادات العليا والمتوسطة، وأجورا أقل لمن يسمون (الفواعلية) وهؤلاء فئة من الفلاحين هجرت أرضها الزراعية للعمل في الوظائف الشاقة جدا بحثا عن رواتب أعلى مما يحصلون عليه من الفلاحة، وفئة أخرى من هؤلاء الفلاحين هجرت أرضها الزراعية بحثا عن وظائف كالحماية وخدمة البيوت لنفس السبب، فاتخذ الناس قرارهم بالهجرة بحثا عن الرزق الوفير.
ونتيجة لسلوكيات البناء العشوائي لاستقبال كل هذه الأعداد من المهاجرين حدثت مشكلة (العشوائيات) وهي أحياء وأماكن سكانية في المدن – خصوصا القاهرة الكبرى – تضم في جوهرها هؤلاء المهاجرين بالأساس والذين تختلف ثقافتهم وسلوكياتهم عن أبناء المدن الأصلاء.
ولأن الفارق بين أجور القرية والمدينة ظل موجودا لم تتوقف الهجرة إلى المدن حتى اليوم، وهذا أحدث ثلاث مشكلات:
الأولى: زيادة في معروض العمالة بالمدن أدى فورا لوقف سياسات رفع الأجور، حتى انخفض الفارق بين أجور القرية وأجور المدينة لأدنى مستوياته منذ حدوث المشكلة بالسبعينات..
الثانية: اختفاء الطابع الجمالي في المدن وانتشار التسول والتشدد الديني الذي كان محصورا آنذاك في القرى، لتصبح المدينة وكرا يعاني من الجهل والتشدد والفوضى والعنف وعدم النظافة، الذي هو عارض أساسي لخفض الإنفاق على التعليم والخدمة المجتمعية..
الثالثة: انخفاض مستوى المعيشة في القرى جراء عدم اهتمام رأس المال بتطويرها والتركيز على المدن التي صارت معسكرات استقبال للمهاجرين والعمال، وغريزة رأس المال طبيعي تتوجه لموطن العمالة الأصلي وهو المدينة، ولا تهتم بالقرية..
لقد أدت هذه المشكلة لشيوع الفقر الشديد بالقرى، مما أوقع الناس في مشكلتين، الأولى: وقوعهم أسرى للجماعات الدينية التي استغلت هذا الفقر بالجمعيات الخيرية والحضّانات لنشر الوهابية المدعومة ماليا بسخاء هذا التوقيت، والثانية: دفع الناس لسلوكيات ضارة كالبناء على الأرض الزراعية لاحتواء المواليد الجديدة، وما يتعلق بها من مشكلات التصحّر وخفض الإنتاج الزراعي وعدم مناسبته للزيادة السكانية.
بعد ثورة يونيو 2013 كتبت كثيرا عن أهمية حدوث (ثورة صناعية) كضامن وحيد لتحسين مستوى معيشة المصري، ولعلاج آفات وكوارث حقبة الانفتاح..علاوة على تصديها لأزمة الخطاب الديني المتشدد، وأن هذه الثورة لا يجب أن تتوقف حتى تستوعب العمالة المعروضة في السوق ليحدث التوازن بين عروض العمالة والطلب عليها..لكن الدولة اتخذت وعلى مدار 7 سنوات سياسة مختلفة وهي (البناء الأفقي) وإهدار ثروات الدولة والمنح الدولية دون حل مشكلة الفقر، فكانت النتيجة زيادة كبيرة ومطردة في الفقر وانتشار الهجرة غير الشرعية وطرد الكفاءات وشيوع المحسوبيات في الوظائف والتعيين، إضافة لانهيار العملة وما صاحبها من انهيار المرتبات ووقف العلاوات والمكافآت بالقطاع الخاص ..
البناء الأفقي مهم والمقصود به التنمية العمرانية والتحتية، لكنه لا يحدث على حساب التنمية الصناعية التي توفر بالأساس العملة الصعبة للبلاد وتحفظ قيمة عملتها المحلية من جانب، وتوفر سبل العيش الكريم والآمن للمواطن من جانب آخر، وأي دولة تعمل على تأمين "محدودي الدخل" أول قرار تتخذه التوسع في البناء الصناعي، ومن ذلك تشجيع الورش والصناعات الصغيرة والاستثمار وزيادة التنافسية وحرية السوق، لكن للأسف الدولة لم تفعل ذلك طيلة سنوات، ولم تستفيق على حجم الكارثة التي حدثت سوى من 4 سنوات فقط..ولكن بعد إيه؟؟!