ليست المرة الأولى التي نتحدث فيها عن الصراع العربي – الصهيوني، وأعتقد أنها لن تكون الأخيرة مادام هذا العدو يقبع فوق الأرض العربية المغتصبة منذ عشرات السنين، لقد بدأ الصراع مع العدو الصهيوني منذ اللحظة التي فكر فيها الصهاينة في البحث عن وطن لهم يجمع شتاتهم من حول العالم، واتفاقهم مع القوى الاستعمارية العالمية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين والمتمثلة في ذلك الوقت في بريطانيا العظمى التي كانت تفرض سيطرتها وهيمنتها بالقوة على أجزاء كبيرة من وطننا العربي، واستقر الرأي بين المتآمرين على اغتصاب الأرض العربية في فلسطين، وتم الإعلان عن المؤامرة عبر ما عرف " بوعد بلفور " وهو الاسم الشائع الذي عرفت به الرسالة التي أرسلها آرثر جيمس بلفور وزير الخارجية البريطاني آنذاك بتاريخ 2 نوفمبر ( تشرين الثاني ) 1917 إلى اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد يشير فيها إلى تأييد الحكومة البريطانية إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.
وبالطبع منح هذا الوعد " من لا يملك لمن لا يستحق"، فالحكومة البريطانية لا تملك الأرض العربية الفلسطينية، وإن سيطرت عليها بقوة السلاح واحتلتها، واليهود الصهاينة الذين جاءوا من كل أصقاع الأرض لا يستحقون أرض فلسطين، وحظى وعد بلفور على مباركة العديد من الدول الاستعمارية حيث وافقت عليه فرنسا وايطاليا رسمياً في عام 1918، ووافق الرئيس الأمريكي ولسون على محتواه قبل نشره عام 1919، ووافقت عليه اليابان في عام 1920، ووافق المجلس الأعلى لدول الحلفاء في مؤتمر سان ريمو شريطة قيام بريطانيا بالانتداب على فلسطين، وأخيراً لقى الوعد موافقة عصبة الأمم المتحدة والتي وافقت كذلك على الانتداب البريطاني على فلسطين.
وقد لقى الوعد المزعوم رفضاً فلسطينيا قوياً، فاندلعت مجموعة من الثورات، جسدت كفاح الشعب العربي الفلسطيني في مواجهة العدو الصهيوني، لكن القوى الاستعمارية وعلى رأسها بريطانيا وأمريكا استمرتا في دعم الوجود اليهودي الصهيوني داخل الأرض الفلسطينية وفي 29 نوفمبر ١٩٤٧
( تشرين الثاني ) صدر قرار هيئة الأمم رقم 181 القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين : واحدة يهودية وأخرى عربية، مما أدى إلى إعلان قيام الدولة اليهودية المزعومة كدولة مستقلة في فلسطين في 15 مايو ( أيار ) 1948، ومنذ ذلك التاريخ بدأ الصراع العربي – الصهيوني بحرب فلسطين 1948، والتي شاركت فيها ستة دول عربية كانت في مقدمتهم المملكة المصرية وبذلك تكون مصر واحدة من الدول العربية التي دخلت الصراع مبكراً مع العدو الصهيوني دفاعاً عن فلسطين العربية، واستمر الصراع بعد قيام ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ التي قادها الزعيم جمال عبد الناصر والذي شارك في حرب فلسطين وحوصر في الفلوجة وشهد خيبة أمل الجيوش العربية، فعندما قام بالثورة كانت قضية فلسطين في قلبه وعقله، وعندما انتقلت مصر على يديه من الملكية إلى الجمهورية التي أعلنت في ١٨ يونيو ١٩٥٣ ظل الصراع مع العدو الصهيوني مستمر، فأثناء نضال جمال عبد الناصر ضد الاحتلال البريطاني قام بتأميم قناة السويس فقامت بريطانيا وفرنسا ومعهما العدو الصهيوني بالعدوان الثلاثي على مصر في ١٩٥٦، وبذلك تعمق الصراع مع ذلك العدو الذي وصل لذروته في حرب 5 يونيو ( حزيران ) 1967 والتي أسفرت عن هزيمة عربية واحتلال العدو الصهيوني لسيناء وهضبة الجولان والقدس الشرقية واجزاء من الأردن، ولم تسكت مصر بل قامت مباشرة بحرب الاستنزاف التي كبدت العدو الصهيوني خسائر هائلة، ومهدت لحرب 6 أكتوبر ( تشرين الأول ) 1٩٧٣ والتي تعد الانتصار العربي الأكبر على العدو الصهيوني.
ومع هزيمة العدو الصهيوني في حرب أكتوبر 1973 بدأ يبحث عن أساليب جديدة لمواجهة الأمة العربية في محاولة أن تكون تلك الحرب هي الأخيرة مع الجيوش العربية، فبدأت نغمة السلام المزعوم التي استجاب لها أولاً الرئيس المصري آنذاك أنور السادات والتي انتهت بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد في 17 سبتمبر ( أيلول ) 1978، وبذلك خرجت مصر من دائرة الصراع المباشر مع العدو الصهيوني، وفي 13 سبتمبر ( أيلول ) 1993 وقع قائد منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات اتفاقية أسلوا المعروفة باسم إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي وهو اتفاق سلام مزعوم بين العدو الصهيوني ومنظمة التحرير الفلسطينية، وبذلك خرجت المنظمة الكيان الفلسطيني الأكبر في مواجهة العدو الصهيوني من دائرة الصراع المباشر، وفي 26 أكتوبر ( تشرين الأول ) 1994 وقع العاهل الأردني الحسين بن طلال اتفاقية وادى عربة وهى معاهدة سلام مزعومة بين العدو الصهيوني والأردن، ولم تأتي المعاهدة بجديد فتاريخ الأردن يؤكد أنها لم تكن يوماً معادية لهذا الكيان المغتصب للأرض العربية.
واعتقد العدو الصهيوني أنه قد حقق نجاحاً نسبياً في محاولة استمالة الكثير من الحكام العرب لإنهاء حالة الصراع والعداء، لكن هيهات فإن هذا النجاح المزعوم لم يتمكن من التسرب إلى نفوس الشعوب العربية، فلازال الشعب العربي من الماء إلى الماء يعتبر عدوه الأول هو العدو الصهيوني، ويرفض كل أشكال المهادنة والتطبيع معه، وأكبر دليل على ذلك حجم التأييد والدعم الشعبي العربي للمقاومة اللبنانية البطلة والشجاعة التي أجبرت العدو الصهيوني على الانسحاب من الجنوب اللبناني عام 2000 دون شرط أو قيد ودون توقيع اتفاقيات سلام مزعومة، ثم هزمته شر هزيمة في عام 2006، ثم جاءت عملية طوفان الأقصى في ٧ أكتوبر الماضي لتقلب الموازين وتزلزل الأرض تحت أقدام العدو الصهيوني وتشتبك المقاومة اللبنانية من جديد وتنضم المقاومة اليمنية والعراقية إلى جانب المقاومة الفلسطينية البطلة والشجاعة ليعلم العدو الصهيوني أن المعركة معه لازالت مستمرة ولن تتوقف إلا بإزالته من الوجود على الأرض العربية المحتلة.
وبالطبع مصر التي خرجت من دائرة الصراع المباشر مع العدو الصهيوني منذ ٤٥ عاماً، فرض عليها العدوان الصهيوني الأخير على غزة العودة لواجهة الصراع من جديد، فحين أعلن العدو الصهيوني أن من بين أهداف عمليته العسكرية هي التهجير القسري لسكان غزة وتوطينهم على الأرض المصرية في سيناء، هذا الإعلان وحده يعني سقوط اتفاقية كامب ديفيد، وحين يقوم العدو باقتحام رفح، والاستيلاء على المعبر، والسيطرة العسكرية على محور صلاح الدين (فيلادلفيا) الذي يمتد بطول ١٤ كم على طول الحدود بين قطاع غزة ومصر والذي تنص الاتفاقية على بقاءه آمن تكون الاتفاقية قد سقطت.
ولكل من يشكك في عدم عودة مصر لواجهة الصراع نقول، مصر قد عادت فعلاً منذ بدء العدوان على غزة، لكنها تتعامل بذكاء شديد في إدارة الصراع مع العدو الصهيوني، فالعالم أجمع الآن يرى أن العدو الصهيوني هو من أسقط اتفاقية كامب ديفيد، لذلك فمصر تحاول الوساطة بين حماس والعدو الصهيوني لوقف العدوان على غزة وإدخال المساعدات الإنسانية وتبادل الأسرى وذلك من أجل نزع فتيل الحرب وإجهاض المشروع المعلن الآن بالقضاء على حماس وتهجير سكان غزة وتوطينهم في سيناء، لكن وإذا أصر العدو الصهيوني على الاستمرار فالجيش المصري يقف الآن على الحدود ومستعد للدفاع عن التراب الوطني المصري الذي حرر بدماء شهداء الجيش المصري في صراعه الطويل مع العدو الصهيوني، وهنا نستحضر كلمات الزعيم الخالد جمال عبد الناصر" من يقاتلون يحق لهم أن يأملوا بالنصر، أما الذين لا يقاتلون فلا ينتظروا إلا القتل "، اللهم بلغت اللهم فاشهد.
بقلم/ د. محمد سيد أحمد