مع قدوم عيد الأضحى في كل عام خاصة في السنوات الأخيرة يتكرر نفس المقال، وبنفس العبارات والكلمات تقريباً، فالعيد أصبح بالنسبة للفقراء في بر مصر مصدر للألم بدلاً من الفرح، وفي مثل هذه الأيام تكون الفرصة سانحة للمحللين الاجتماعيين المهمومين بشئون الوطن أن يرصدوا أحوال الفقراء والكادحين والمهمشين من شعب مصر بل ومعهم المستورين كما تصفهم الأدبيات الاجتماعية والسياسية بالطبقة الوسطى، ومحدودي الدخل كما تصفهم التصريحات الحكومية بشكل أكثر واقعية بعيداً عن التنظير عبر المقاعد الوثيرة والتي ينتج عنها تحليلات للبنية الطبقية بعيدة كل البعد عن الواقع المعاش.
وبالطبع يمكننا أن نرصد معاناة الغالبية العظمى في بر مصر والتي أصبحت تشكل ما يقرب من 90% دون مبالغة يعيشون إما تحت خط الفقر أو في حزامه ( وهم المهددون بفعل السياسات الاقتصادية للسقوط أسفل السلم الاجتماعي )، فمع تآكل مكتسبات الفئات والشرائح الطبقية الوسطى من المستورين في بر مصر بفعل السياسات الحكومية التي تسير وفقا للسياسات الاقتصادية الرأسمالية التابعة والتي تفرض علينا آليات السوق فيقوم مجموعة من التجار المستغلين بفرض هيمنتهم على السوق فيلتهمون وينهبون دخول المستورين فيحولوهم إلى محتاجين فيسقطون من فوق السلم الاجتماعي ليلتحقوا بالفقراء والكادحين.
ومع اقتراب عيد الأضحى دائما ما كان يسعى أبناء الطبقة الوسطى الأكثر تديناً والذين يشكلون الوعاء الأخلاقي للمجتمع لشراء الأضاحي تنفيذاً لتعاليم الدين الإسلامي، ويقومون بنحرها يوم العيد ويتم توزيعها على الفقراء والكادحين الذين لا تمكنهم ظروفهم من شراء الأضحية، وكان العيد رمزاً للتكافل الاجتماعي حيث يقوم الميسورين والمستورين بإدخال الفرحة والسعادة والسرور إلى نفوس الفقراء والكادحين والمحتاجين فيعم الوئام والسلم الاجتماعي في بر مصر.
فما هو الجديد هذا العام ؟ لقد واصلت أسعار اللحوم الارتفاع الجنوني وغير المسبوق في تاريخ مصر كما حدث في السنوات الماضية، مما أدى إلى عجز تام لطبقة المستورين الذين كانوا يقبلون على شراء الأضحية، بل أصبح الكثيرين من أبناء هذه الطبقة ينتظر من يقدم له بعضاً من لحم أضحيته من القادرين على شرائها ونحرها من فئة الميسورين والذين هم بالأصل غير حريصين على ممارسة هذه الشعائر والطقوس الدينية، ففي المناطق الشعبية والعشوائية الفقيرة وصل سعر كيلو اللحم إلى ٣٥٠ جنيه، وبالطبع يرتفع السعر كثيراً في المناطق الأكثر رقياً، لكننا نتحدث عن - عموم بر مصر – لقد كنت حريصاً على مقابلة العديد من أبناء طبقة المستورين التي لازالت أنتمي إليها خلال الأيام الماضية والجميع يشتكي ويتحدث عن معاناته وعدم قدرته على الوفاء بمتطلبات الحياة عامة ومتطلبات عيد الأضحى خاصة.
وباستطلاع آراءهم "أكد واحد منهم أنه لن يستطع شراء أضحية هذا العام وكان معتاد على شراء عجل نظراً لكبر عدد أفراد عائلته، وأنه سوف يضطر للمشاركة بالربع في عجل يصل ثمنه لأكثر من سبعين ألف جنيه ستكون حصته فيها ١٨ ألف جنيه، وقد لا تكفي هذه الكمية لعائلته ومن اعتاد على منحهم لحوم اضحيته من الفقراء لكن ما باليد حيلة "، وأشار آخر "أنه سوف يقوم بشراء كمية محدودة جداً من اللحوم من منافذ بيع اللحوم المستوردة أو التابعة للقوات المسلحة والتي تجاوز فيها كيلو اللحم ٣٠٠ جنيه – رغم عدم جودة هذه النوعية من اللحوم - لتوزيعها على بعض أفراد عائلته ولن يتمكن من توزيع اللحوم على بعض الفقراء الذين كان يمنحهم لحوم أضحيته"، وذكر ثالث "أنه لن يتمكن من شراء أضحيته هذا العام وسوف يضطر للسفر خارج القاهرة قبل قدوم العيد هرباً من مسؤولية الوفاء بلحوم الأضحية التي ينتظرها منه الأقارب والمعارف من الفقراء الذين اعتادوا أن يحصلوا عليه منه كل عام"، وأكد رابع أنه سيقاطع شراء وأكل اللحم هذا العام وسوف يستبدل ذلك ببعض من الأسماك والدجاج وسوف ينتظر من يمنحه كيلو من اللحم صباح العيد، وهو ما يحزنه كثيراً فقد كان معتاداً على ذبح الاضحية ومنح الأهل والفقراء منها"، هذا هو حال الطبقة الوسطى أو كما يطلق عليها في التراث الشعبي المصري المستورين، فما هو حال الفقراء في بر مصر.
بالطبع أحوال الفقراء والكادحين أسوأ بكثير ومعاناتهم تفوق كل تخيل فعندما تسير بشوارع المحروسة وتكون من المحظوظين الذين مازالوا في خانة الميسورين القادرين على شراء الأضحية، وبعد نحرها وتقطيعها وتجهيزها في أكياس لتوزيعها على المحتاجين، وتسوقك الأقدار للذهاب إلى أحد المناطق الشعبية أو العشوائية الفقيرة بل وفي الشوارع الرئيسية الكبرى داخل العاصمة، وتقف بسيارتك لتوزيع لحوم الأضحية فتجد نفسك عاجزاً عن التوزيع نتيجة هجوم هؤلاء الفقراء عليك بشكل يدعو للآسي فما لديك لا يكفي 1 % ممن هجموا عليك وشلوا حركتك تماماً وأخذوا يخطفون الأكياس من داخل شنطة سيارتك وكأن المجاعة بالفعل قد انتشرت في بر مصر، وهذا المشهد حدث أمام عيني عدة مرات خلال الأعوام الماضية ، فما بالنا بهذا العام !!.
وبعد أن رصدنا أحوال ومعاناة الفقراء والكادحين والمهمشين، ومعهم طبقة المستورين ومحدودي الدخل في بر مصر قبل قدوم عيد الأضحى نتساءل من هو المسؤول عن معاناة هؤلاء جميعاً ؟! أعتقد وبما لا يدع مجال للشك أن المسؤولية تقع وبشكل مباشر على عاتق الحكومات العاجزة عن تلبية احتياجات المواطن الفقير، تلك الحكومات التي لم تتمكن من تغيير السياسات الاقتصادية الرأسمالية التابعة التي أفقرت الغالبية العظمى من المصريين على مدار نصف قرن، ومازالت تعمل لصالح مجموعة من السماسرة المستغلين الذين يتلاعبون بقوت الشعب تحت حجة آليات السوق الحرة، والحل هنا يتمثل في الإطاحة بهذه الحكومات والاستعانة بحكومات وطنية حقيقية تعلن انحيازها التام للفقراء والكادحين والمهمشين، وتحول الوعود الوهمية إلى سياسات وبرامج واقعية تأتي للفقراء بعيدهم الذي ينتظرونه منذ سنوات دون مجيء، لقد تعب الفقراء من التضحية بهم في كل عيد أضحى ولم يعد لديهم مخزون من الصبر ولم تعد لديهم قدرة على الاحتمال، خاصة وأن هذا العام يأتي عيد الأضحى وهؤلاء الفقراء يعانون من تجرأ الحكومة المصرية على رغيف الخبز فما بالنا باللحوم، وما يقال على مصر يمكن أن يقال أضعاف أضعافه على الكثير من البلدان العربية والإسلامية، اللهم بلغت اللهم فاشهد.
بقلم / د. محمد سيد أحمد