أكثر من 8 أشهر للعدوان الإسرائيلي على غزة والضفة الغربية, ولا تزال الإدارة الأمريكية تراهن على استمراره, وتعاند وتعارض بإستخدام الفيتو كافة الدعوات والقرارات الأممية, وقرارات محكمة الجنايات الدولية, والأهم دعوات شعوب العالم ونقاباته وطلاب جامعاته وكافة منظماته الإنسانية, لوقف العدوان والمجازر وجرائم الحرب بحق الفلسطينيين, ولا تزال تسمح لبنيامين نتنياهو بإرتكاب المجازر وتطبيق الحصار والتجويع, من خلال مسرحية هزلية وعملية تبادل الأدوار, تضع فيها نتنياهو وأهدافه المعلنة في الواجهة, وتدعي عدم تجاوزه خطوطها الحمراء, وتحمّل حماس مسؤولية العرقلة وعدم التوصل لإتفاق وقف إطلاق النار , في الوقت الذي بات العالم كله يدرك أن الولايات المتحدة هي صاحبة مشروع العدوان, وهي من يقوده, ومن يمنع توقفه, وبأن نتنياهو بحد ذاته هو الخط الأحمر لواشنطن وإدارة بايدن في "إسرائيل".
بات من المعروف أن الولايات المتحدة قد استغلت أكثر ربع قرن لتربعها وتفردها بقيادة العالم منذ انهيارالإتحاد السوفيتي, وانطلاقها نحو العالم بالغطرسة والهيمنة وإشاعة الحروب والفوضى, ولم تكن تتوقع أن عربدتها ستكون العامل الأول وراء فشلها وتراجعها وأفول امبراطوريتها.
وأصبحت عملية طوفان الأقصى تعتبر مفصلاً رئيسياً لإعلان أن ما قبلها سيختلف تماماً عما بعدها, وبأنه لن يكون بإمكان الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي المتابعة بنفس الذهنية وقواعد اللعبة الدولية السابقة, وبات عليهما الإلتزام بقواعد الإشتباك ومعادلات الردع التي فرضتها المقاومة سواء كانت داخل الأراضي المحتلة أو على الحدود الشمالية, أو على طول جبهات المساندة وساحات محور المقاومة, وساحات المواجهة الإقليمية والدولية.
وفي وقتٍ لا يزال المشروع الصهيوني يبحث فيه عن تثبت أقدام احتلاله في فلسطين المحتلة والأراضي اللبنانية والسورية والأردنية, وعينه على مشاريع تمتد من الفرات إلى النيل, يبقى الحلم الأمريكي بإستمرار تربعه على عرش القيادة الدولية, والسيطرة على العالم, في وقتٍ تغير فيه العالم, وبات العالم متعدد الأقطاب واقعاً يحمل كافة مؤشرات حسم المعركة لصالحه بمواجهة النظام الأحادي.
بات من الواضح أن الولايات المتحدة ترفض الإستسلام وتهدد بإشعال العالم, مقابل أهدافها التي من أجلها ربطت كافة حروبها في حزم متشابكة معقدة, ونقلت حروبها ضد روسيا والصين وإيران وغيرهم, إلى الشرق الأوسط وتحديداً إلى أرض فلسطين المحتلة من خلال العدوان على غزة, ووضعت العالم أمام إكذوبة عدم رغبتها بتوسيع المعركة, للإستفراد بالمقاومة الفلسطينية أولاً, والمضي نحو تحقيق العشرات من أهدافها على مستوى منطقة الشرق الأوسط والعالم لاحقاً.
إن تمسكها بأهدافها جعلها تزيد إجرامها بحق الفلسطينيين, وقادها نحو تشديد قبضتها على نتنياهو ومتطرفيه واّلة العدوان الإسرائيلية, لكنها فوجئت بوحدة ساحات وجبهات المقاومة وبجبهات الإسناد, وبإنقلاب المشهد الدولي وبسقوط الروايتين الأمريكية والإسرائيلية, وبحاجتهما إلى إحصاء هزائمهما العسكرية الإستراتيجية والسياسية والإعلامية, الأمر الذي دفعهما من خلال الجنون للهروب نحو الأمام واستمرار العدوان.
إن عدوانية وهمجية الإدارة الأمريكية لا تقل عن تلك التي يظهرها الكيان الإسرائيلي, وهي التي تشارك بفرض الحصارعلى غزة, وبأنها صاحبة بدعة وإكذوبة رصيف المساعدات الإنسانية العائم, الذي لم تستخدمه لإدخال المساعدات الإنسانية, بل شاركت عبره بمجزرة النصيرات وبقتل أكثر من 200 فلسطيني, مقابل تحرير4 أسرى إسرائيليين, كذلك تتحمل مسؤولية توقف أعمال برنامج الأغذية العالمي, بعدما حظرت التمويل الأميركي لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) حتى آذار2025, على خلفية اتهام إسرائيلي باطل ومزور تم دحضه, في وقتٍ تستمر فيه بخداعها وأكاذيبها, بإعلان فرضها عقوبات على مجموعة "تساف 9" الإسرائيلية, التي هاجمت قوافل المساعدات الإنسانية المتجهة نحوغزة وأحرقتها في 13/أيار.
وفي وقت باتت تخشى فيه استهداف رصيفها العائم, بعد فضح مشاركتها بمجزرة النصيرات, أعلنت أنها بصدد نقله مؤقتاً من شاطئ قطاع غزة إلى ميناء أسدود الإسرائيلي تحت ذريعة التوقعات بإرتفاع أمواج البحر, بالتوازي مع تشكيك مسؤولين أمميين ورئيس منظمة اللاجئين الدولية بنجاح عمل الرصيف, وعدم إكتراث الولايات المتحدة بضرورة إدخال المساعدات, رغم صدور تقرير منظمة الفاو في شهر أيار الماضي, بأن مليون ومئة ألف فلسطيني معرضين لخطر المجاعة خلال أقل من 40 يوماً.
ومع انسداد أفق العدوان على غزة, وعدم تحقيق الأهداف الإسرائيلية المعلنة, بدأ قادة الكيان بقرع طبول الحرب على الجبهة الشمالية في ظل تصعيدٍ غير مسبوق, قد يجر قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى مواجهةٍ مباشرة مع حزب الله, وسط توصيات القيادة الشمالية بإنهاء العملية العسكرية في رفح بأسرع وقت ممكن, وتحويل الثقل العسكري نحو الشمال, وبضرورة القضاء على القدرات الهجومية لحزب الله, فيما دعت القيادات الأمنية الإسرائيلية إلى إجراء "تغيير عميق" على الحدود الشمالية لضمان عودة مئات الاّلاف الإسرائيلين إلى المستوطنات على الحدود اللبنانية, في وقتٍ تتصاعد فيه دعوات سياسين إسرائيلين لشن الحرب على لبنان بالتزامن مع العمليات التي يقوم بها الحزب على مواقع عسكرية ومستوطنات إسرائيلية, وسط ما أعلنه رئيس المجلس التنفيذي للحزب هاشم صفي الدين بأن "العمليات العسكرية لن تتوقف" وبأن الحزب "يمتلك "قدرات كبيرة" .
وفي ذات السياق أكد موقع أكسيوس عن مسؤولين أمريكيين أن إدارة بايدن تشعر بالقلق بالغ من تصاعد وتيرة الإشتباكات بين الحزب وإسرائيل, وبسعيها لمنع تحولها إلى حرب شاملة, فيما تحدثت المصادر الإسرائيلية عن أن الهجوم الذي نفذه حزب الله على الشمال مؤخراً يعد الأكبر منذ 8/أكتوبر, والذي تمثل بإطلاق أكثر من 200 صاروخ رداً على إغتيال قيادي كبير في الحزب.
في وقتٍ يستبعد فيه وزير الدفاع الإسرائيلي يواّف غالانت انضمام إسرائيل إلى المبادرة التي روج لها الرئيس ماكرون, والتي تشكل فرنسا والولايات المتحدة وإسرائيل بموجبها مجموعة اتصال للعمل على نزع فتيل التوتر على الحدود مع لبنان, وأكد أن فرنسا "تتبنى سياسات معادية لإسرائيل" , وبأن إسرائيل لن تكون طرفاً في الإطار الثلاثي الذي اقترحته فرنسا.
إن صمود وثبات وقوة المقاومة وجبهات الإسناد, فرضت على الإسرائيليين غياب أي حقيقة يمكنهم الإجماع عليها, وباتت خلافاتهم أعمق من أن تعالج, وسط الفشل والقلق والإستقالات وتظاهرات المستوطنين المطالبة بإستقالة نتنياهو , ناهيك الصفعات العسكرية التي يتلقاها جيش الإحتلال, على وقع حصاره من البحر الأحمر إلى الأبيض المتوسط, وتصاعد هزائمه العسكرية, وتضعضع كافة مفاصله وجبهاته, وبات أقرب إلى زواله من أي وقتٍ مضى.
ففي عملية نوعية بطولية مركبة نفذتها بالأمس سرايا القسام في غربي رفح, ووجهت لنتنياهو وقادة حربه ولمجرمي مستوطنيه صفعةً غير مسبوقة, بعدما استدراجت جرافة عسكرية إسرائيلية غربي رفح واستهدفتها وأصابتها بشكل مباشر, أتبعتها بإستهداف وتدمير ناقلة الجند "مدرعة النمر" التي يتباهى بها العدو, بمن فيها بحصيلة 9 قتلى من جنود الإحتلال جعلت نتنياهو يقول:"دفعنا ثمن يُفطر القلب".
إن استهداف "مدرعة النمر" ألمت العدو, وأتت بمثابة هدية سرايا القسام لشعب فلسطين ولشعوب محور المقاومة عشية عيد الأضحى المبارك, وتسببت بإرتباك الكيان بكامل مفاصله, وأجبرت نتنياهو على مخاطبة الإسرائيليين عبر خطابٍ متلفز مسجل, ليقول:" نقاتل من أجل وجودنا ومستقبلنا ولإستعادة الأسرى, لا بديل عن النصر, رغم الثمن الباهظ ملتزمون بأهداف الحرب للقضاء على حماس واستعادة الأسرى, وبألاّ تشكل غزة خطراً مجدداً".
فيما قال وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير "هذا يوم صعب ومؤلم, علينا الإستمرار في القتال", في حين طالب أيهودا باراك رئيس الحكومة السابق بوقف الحرب وبتسوية مع حماس وبتغيير الحكومة", وأما المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي, فقد وعد بالتحقيق حول المدرعة ومقتل الجنود, وخاطب مستوطني الشمال بقوله:"هدفنا أن تعودوا إلى بيوتكم", وأكد أن حزب الله "يطلق الصواريخ والمسيرات, ونحن نسقط معظمها, وجزء منها يُحدث الحرائق".
من الواضح أن قادة الكيان لا يجرؤون على قول الحقيقة, ويحاولون نفي صفة العدوان الذي يقومون به, ويدعون الدفاع عن النفس, في حين أنهم يدفعون الأثمان بسبب إحتلالهم وجرائمهم ومشاريعهم الخبيثة, وبسبب خدماتهم التي يقدمونها إلى الولايات المتحدة بغية تحقيق أهدافها حتى لو كانت على حساب الكيان والإسرائيليين على حدٍ سواء. .
م. ميشيل كلاغاصي – كاتب وباحث استراتيجي
17/6/2024