أمام أنظار العالم, يستمر العدوان الإسرائيلي الهمجي على قطاع غزة والضفة الغربية, رغم فشله الميداني والسياسي والإستخباري, واعتراف قادة الكيان السياسيين والعسكريين بالأثمان الباهظة والخسائر البشرية والإقتصادية التي يتكبدونها بشكلٍ يومي, وبخوضهم معركة وجودية بإمتياز, على وقع إصرار بنيامين نتنياهو وفريقه الحكومي المتصارع, على تحقيق جملة أهدافٍ ثبُت خياليتها واستحالة تحقيقها, تسببت بهزائم وإخفاقات ولّدت بدورها عشرات الخلافات داخل الكيان وخارجه, وسط مبالغة الإدارة الأمريكية واستمرار رهانها على العدوان وشراء الوقت اللازم, ووضع غزة على مذبح المصالح والخلافات الأمريكية – الإسرائيلية من جهة, وخلافات الحكومة والقادة الإسرائيليين من جهةٍ أخرى , وربط الصراع في فلسطين المحتلة بصراعات المنطقة والإقليم والعالم.
عدوانٌ تخطى المئتان وستون يوماً وبدا بلا نهاية, ومع ذلك لا تزال المقاومة الفلسطينية تُبهر العالم, بثباتها وقدرتها وبصمود الأهالي, على الرغم من الأذى الكبير والمجازر والظلم والموت والتهجير والتجويع والحصار الذي لم يتوقف حتى اللحظة, متكئةً على جبهات المساندة ووحدة الساحات, التي فاجئت الأعداء واّلمتهم, وتساهم في إخضاع الإسرائيليين ومن خلفهم لوقف إطلاق النار الدائم , وبدعم مواقف المقاومة الفلسطينية في المفاوضات, وهي التي تبدي بدورها الكثير من المرونة والإيجابية في مناقشة الطروحات وتخوض أصعب المفاوضات, وتُظهر مستوىً عالٍ من الإحترافية والإقتدار, من خلال تمسكها بثوابها وبفرض شروطها ومطالب الشعب الفلسطيني العادلة والمحقة ليس في وجه حكومة المجازر والإبادة الجماعية والتطرف الإسرائيلي فقط , بل في وجه الإدارة الأمريكية وكافة الدول الغربية الإستعمارية وداعمي الكيان الإسرائيلي, الذين يُظهرون دعمهم لوقف العدوان ولإيجاد الحلول بعكس ما يخفون.
إن تمسك نتنياهو بضرورة القضاء التام على حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة, ينسف اتفاق عام 1995 الذي انتزع بموجبه الفلسطينيون حق الحكم الذاتي للضفة الغربية وغزة، ويمنحه فرصة طرح عودة السيطرة الأمنية الإسرائيلية على القطاع الخالي من المقاومة منزوع السلاح وإخضاعه إلى الأبد, بالتوازي مع عدم ترحيبه بقوات حفظ سلامٍ دولية, مقابل انسحاب قواته العسكرية من كامل قطاع غزة, بما يؤكد سعي "إسرائيل" إلى تنفيذ كل ما من شأنه أن يؤدي إلى فرض حل الدولة الواحدة اليهودية بمساعدة الولايات المتحدة, ويشكك في الوقت ذاته, بإدعاءات التأييد الأمريكي - الغربي لحل الدولتين.
في الوقت الذي يستمر فيه رهان نتنياهو على شراء الوقت, وبتكرار إصراره على تحقيق أهدافه المعلنة في القضاء على حماس واستعادة الأسرى والسيطرة الأمنية على غزة, بدأ يضيف إليها أهدافاً أخرى وأعلن مؤخراً بأنه يعمل أيضاً على منع إيران من إمتلاك القنبلة النووية, بهدف زيادة الضغط على إدارة بايدن وهي التي تدخل أوقاتها الانتخابية الحساسة, في محاولة واضحة لمقايضة الدعم الصهيوني اليهودي الإسرائيلي الإنتخابي في الولايات المتحدة مقابل حصوله على الأسلحة والقنابل الثقيلة التي يطالب بها, والتي تجادل إدارة بايدن حول توريدها بذريعة عدم حاجة الكيان لقنابل بوزن 2000 طن في مناطق مكتظة بالمدنيين.
خلاف عميق فرضه نتنياهو مع إدارة بايدن, حول الدعم العسكري المطلق الذي يطالب به، في وقتٍ رفضت فيه إدارة بايدن الاتهامات الإسرائيلية ووصفتها بالكاذبة والهادفة إلى زرع البلبلة في فترة الحملة الانتخابية لبايدن وإدارته, فقد ظهر نتنياهو عبر فيديو وتلا بياناً، انتقد فيه الولايات المتحدة لفشلها في تزويد "إسرائيل" بالذخائر التي طلبتها "خلال الحرب".
وسط إستياءٍ أمريكي, نفت كافة مفاصل الإدارة الأمريكية هذه الإدعاءات , بدءاً من الرئيس بايدن ووزير الخارجية ومسؤولي الأمن القومي وحتى الناطقة باسم البيت الأبيض, وتبارى الأمريكيون والصحافة الأمريكية في استعراض حجم المساعدات المالية والإقتصادية, وحجم توريدات الأسلحة الأمريكية إلى الكيان.
إلى متى سينتظر العالم مسرحيات الخلافات الإسرائيلية الداخلية, والخلافات مع الإدارة الأمريكية, بالتوازي مع استمرار المجازر الإسرائيلية والحصار والتجويع, وبات على إدارة بايدن البوح بما تنوي القيام به, بعدما تأكدت بأن نتنياهو أصبح عديم الفائدة ولا يصلح زعيماً أوطرفاً, فيما لا يزال يلهث وراء توسيع نطاق الحرب مع لبنان وغيرها, دون أن يمتلك رؤية وهدف سياسي واضح ومحدد, وجدول زمني أو آلية للإعتراف بالهزيمة أو بإعلان النصرالوهمي من طرفٍ واحد.
بات من الصعب على إدارة بايدن البحث عن تلميع وجهها, والخروج من دائرة إنكشاف حقيقة قيادتها الحرب والعدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان واليمن وسوريا والعراق وإيران, في وقتٍ تستطيع فيه إجبار نتنياهو على وقف العدوان بشكلٍ فوري, وبإقتراح تسوياتٍ إسرائيلية داخلية تبدد فيها هواجسه ومخاوفه من المحاسبة والمقاضاة وإنهاء حياته في سجون الكيان, والإتجاه نحو مفاوضات سلامٍ جدية تتعاون فيها مع كافة الدول الكبرى والأمم المتحدة, لإنهاء الصراع والإحتلال وفق الحقوق التاريخية والقرارات الأممية, وبالإستفادة من أصوات 143 دولة إعترفت بحق الفلسطينيين بإقامة الدولة الفلسطينية.
م. ميشيل كلاغاصي – كاتب وباحث استراتيجي
23/6/2024