بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
لا تنفك دول المنطقة، وخاصة أطراف السداسية العربية، جمهورية مصر العربية، والمملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، والمملكة الأردنية الهاشمية، والمملكة المغربية، ودولة قطر، ومعهم الولايات المتحدة الأمريكية، والكيان الصهيوني، تجتمع وتلتقي في أكثر من دولةٍ وعاصمة، على مستوى رؤساء أجهزتها الأمنية، وفي مقدمتهم رئيس ألــــCIA، ومشاركة وزيري خارجية دولتي الإمارات العربية المتحدة وقطر، برعاية وإشراف الولايات المتحدة الأمريكية، التي تنسق للقاءات وتدعو لها، وتضع أجندتها وتحدد إطارها، وتضغط على الأطراف للمشاركة فيها والتعاون معها.
يلتقي مندوبو هذه الدول أحياناً بصورة علنية مكشوفة، في باريس وروما ولشبونة وجنيف وغيرها، وفي القاهرة والدوحة والرياض ودبي وعمان، وأحياناً بشكلٍ سري بعيداً عن الإعلام والإعلان، وفي ظل ظروف خاصة تفرض السرية والتعتيم الإعلامي، لضمان نجاحها والحيلولة دون إفشالها والاعتراض عليها، ولكنها تلتقي بصورة دائمة، ولعلها تسابق الزمن وتحاول أن تسبق الأحداث الضخمة والمتسارعة في غزة خصوصاً والمنطقة عموماً، وتتهيأ لها وتستعد قبل أن تدهمها وتفاجئها، وتفرض على المنطقة وقائع لا تريدها أو تخشى منها.
ربما لا يوجد على جدول أعمال هذه اللقاءات سوى موضوع مستقبل قطاع غزة، أو ما بات يعرف بمصطلح "اليوم التالي"، أي ماذا بعد وقف الحرب وانتهاء القتال، واستعادة الأسرى الإسرائيليين الأحياء وجثامين القتلى، وكيف سيكون وضع قطاع غزة ومن سيحكمه، وهل ستبقى حركة حماس موجودة ومعها قوى المقاومة المسلحة، وكيف يمكن إعادة إعمار القطاع وإغاثة أهله بعيداً عن سلطة حماس ونفوذها، وضرورة انسحاب جيش الاحتلال وتخليه عن مراكز تواجده في القطاع لصالح سلطة فلسطينية جديدة، أو قوات عربية مشتركة، مدعومة من المجتمع الدولي والولايات المتحدة الأمريكية.
تجري هذه اللقاءات والمشاورات الإقليمية مع الإدارة الأمريكية، علماً أن الحرب لم تنته، والعدوان لم يتوقف، والعدو لم ينتصر، والمقاومة لم تستسلم، وما زال قطاع غزة بشعبه ومقاومته صلباً ثابتاً، واثقاً راسخاً، يقاوم ويقاتل، ويرفض الاستسلام والتنازل، والشعب لم يفوض غير نفسه للحديث باسمه أو التفكير في مستقبله، أو القبول به حاكماً أو سلطةً، ولا يبدو أنه سيقبل بقوة عربيةٍ مشتركة ولو كمرحلة انتقالية، كما لن يقبل بوجود الاحتلال في أي بقعةٍ منه، ولا على أي معبرٍ فيه، ويصر على أن يكون يومه التالي يوماً فلسطينياً خالصاً، يقرر مصيره بنفسه بالتشاور والاتفاق مع كل قواه وفصائله.
الغريب في أمر المجتمعين على غزة ومستقبلها، والمهمومين بغدها ومن يحكمها، والغيورين على شعبها ومعاناته، أولاً افتراضهم أن المقاومة هزمت وانكسرت واستسلمت ورضيت بأن تفرض عليها الحلول، وأن تخضع للشروط، وهذا أمرٌ منافي للواقع ومخالف لما نراه على الأرض وفي الميدان، حيث تبدو المقاومة كأقوى ما تكون، نشطةً فاعلةً قويةً، مترابطة متماسكة، تفرض نفسها بعملياتها، وتؤكد حضورها بجاهزيتها، وأنها باقية رغم أنف الاحتلال، الذي سينسحب من قطاعهم كله تحت وقع عملياتها، ونتيجة صمودها وشعبها.
والأمر الثاني هو استبعادهم للطرف الفلسطيني صاحب القضية والمعني بالمسألة كلها، حيث لا يشركون الفلسطينيين في حواراتهم، ولا يدعونهم إلى لقاءاتهم، ولا يستدعون مستشارين منهم، ولا أصحاب خبرةٍ وأهل رأيٍ ليسمعوا لهم ويعرفوا منهم اتجاهات الرأي الفلسطينية، علماً أنه لا يوجد في غزة من يقبل أن يكون بديلاً، أو يرضى أن يكون أداةً، ويعمل أجيراً تحت سلطة الاحتلال.
والتغييب نفسه يطال السلطة الفلسطينية التي تتفق معهم أحياناً ولا تختلف معهم غالباً، فإنهم لا يدعونها إلا نادراً، ولا يشركونها في لقاءاتهم إلا قدراً، إذ لا يقبل بها العدو شريكاً ولا يعترف بها ممثلاً، ولا يريد أن يكون لها أي دورٍ في إدارة قطاع غزة، ولا يتمنى جمع غزة والضفة تحت سيادتها، ولا يريد السماح لها بالعودة إليه كسلطةٍ فلسطينيةٍ بشكلها الحالي، فهو على الرغم من تبعيتها له والتزامها باتفاقياته معه، يريد أن يسخطها أكثر، وأن يقزم دورها أكثر، وأن يعين بعضاً منها رغماً عنها في إدارة القطاع، دون أن تكون السلطة مرجعيتها، ولا رام الله إدارتها، وإنما يريدهم أدواتٍ بيده، وسلطةً تحرسه، ينفذون أوامره، ويلتزمون بتعاليمه.
إنهم يخططون لإنتاج سلطةٍ فلسطينيةٍ جديدةٍ، فإن لم تكن عشائرية وهو ما قد بدا صعباً عليهم، فإنهم لا يعدمون وسيلةً لإنشاء وتأسيس شركاتٍ أمنية وإدارية فلسطينية، يتم التعاقد معها وتنظيم تمويلها، وتوظيف خبراء فيها ومستشارين ينهضون بها، وضمان توفير ما يلزمها، بحيث تتولى المهام المدنية والإدارية للسكان في القطاع، وتشرف على إدارة مؤسساته الصحية والتعليمية وصيانة الشوارع والطرقات، وإعادة بناء شبكات المجاري وخطوط الهاتف والكهرباء، وتتولى جباية الفواتير وإدارة المحال التجارية والمرافق العامة وغيره.
يتطلع المجتمعون لاسترضاء الكيان الصهيوني بكل السبل الممكنة، وتمكينه مما عجز عن تحقيقه بالقوة، فهم يفكرون في قطاعٍ مضبوطٍ محكومٍ، معزولٍ مراقبٍ، منزوع السلاح مجرداً من أي قوةٍ عسكرية، لا توجد فيه قوى حزبية ولا فصائل وطنية، ولا يعيش فيه قادة المقاومة ولا رموز العمل الوطني، ويخرج منه كل من يوصف بأنه خطرٌ على الكيان، أو يضر وجوده بمصالحه وأمنه واستقراره.
يظن المهرولون إلى الاجتماعات، والمتنادون إلى اللقاءات، أن المهمة سهلة، وأن الوظيفة ممكنة، وأن غزة قد استناخت وضعفت، وأنها قد ذبحت فعلاً وسقطت حقاً، وأنه من السهل عليهم بعد ذلك سلخها وتقطيعها، وإعادة تشكيلها وتكوينها أو تقسيمها، وما علموا أن غزة والقدس والضفة الغربية ستبقى عصيةً عليهم، ثائرةً ضدهم متمردةً وأهلها عليهم، وستبقى أرضها مقبرةً لهم ولعنةً عليهم.
بيروت في 28/7/2024