كشف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة والضفة الغربية الوجه الحقيقي لغالبية الدول الأوروبية خصوصاً دول الإتحاد الأوروبي, الذي يشكل جسماً سياسياً إقتصادياً مالياً واحداً لا يستهان بقدراته وإمكاناته وفعاليته في أوروبا وحيث يمتد ويتمدد حول العالم, ليكون بمثابة "الجسم الرديف" للولايات المتحدة القادر على لعب أدواره وتنفيذ مهامه في الوقت بدل الضائع وأحياناً كلاعب رئيسي وفق ما تقتضيه الإملاءات والأجندات والمصالح الأمريكية - الإسرائيلية, بالإضافة لكونه يشكل جسماً عسكرياً يقبع في رحم الناتو, كذراعٍ عسكرية تخوض المعارك بالأصالة أو بالوكالة الأمريكية – لا فرق -.
منذ صبيحة 8/أكتوبر سطّر الإتحاد إزدواجيةً غير مسبوقة في التاريخ, بعدما تسابق قادته وزعماء دوله لإعلان دعمهم وتأييدهم لـ "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها", ونحو المشاركة الفعلية في المجازر والحصار وبإنضمام قطعهم البحرية الحربية إلى حاملات الطائرات والمدمرات الأمريكية التي تم إرسالها إلى لحصار وتهديد غزة ودول المنطقة, وانتقلوا لاحقاً نحو لعب دور الراعي والوسيط للمفاوضات بين وفدي حماس والوفد الإسرائيلي, فكانت روما من بعد باريس التي شكلت أرض "الملعب" لعدة جولات ونسخٍ تفاوضية, أثبتت بأنها معنية فقط بشراء الوقت ومنحه للمجرم نتنياهو ليستكمل مجازره والإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.
ومع مرور الوقت واستمرار العدوان ووصول أعداد الشهداء إلى ما يقارب الـ 40 ألف شهيد, وسط الدمار الهائل والحصار والجوع وانتشار الأوبئة والأمراض ...الخ, وبروز مواقف محكمة الجنايات الدولية, واتحاد مئات دول العالم والتظاهرات الشعبية وراء المطالبة بوقف العدوان بشكلٍ فوري, انتقل قادة الإتحاد وبعض زعماء دوله لتبني المواقف الأمريكية الكاذبة الداعية لعدم توسيع نطاق الحرب, ولمناشدة كافة الأطراف (الضحية والجلاد) بضبط النفس, وبوقف التصعيد, في وقتٍ يستمر فيه دعم الإتحاد الأوروبي للكيان الإسرائيلي رغم الجرائم والمجازر التي يرتكبها بحق الفلسطينيين بشكلٍ يومي.
أيُّ قباحة ينتهجها الإتحاد الأوروبي, وهو الشريك الفعلي في سفك دماء الفلسطينيين, وبجميع الماّسي التي يتعرضون لها منذ ما يزيد عن 310 يوم للعدوان الإسرائيلي, رفض فيها الإتحاد الأوروبي فرض العقوبات على "إسرائيل"، وقام بتزويدها بالمال والسلاح، وسهل نقل ووصول الأسلحة الأمريكية إليها، واستثمر في تطوير التقنيات العسكرية الإسرائيلية.
للأسف لا زالت غالبية الدول الأوروبية تتباهى بقيمٍ وشعاراتٍ, ويبحثون عن تسجيل المواقف البراقة زوراً من بوابة التجميل الدائم لصورتهم في العالم, ويتجاهلون الجوهر الحقيقي لتلك القيم والشعارات, والإشارات والدعوات الصادرة عن المنظمات الدولية لوقف دعم "إسرائيل" بالسلاح, ويتجاهلون تصريح ممثل منظمة اليونسيف في جنيف في 31 أكتوبر 2023 بأن غزة قد "أصبحت مقبرة للأطفال", في وقتٍ سجلت فيه رئيسة مفوضية الإتحاد الأوروبي أورسولا فون دير لاين أسرع زيارتها إلى تل أبيب بعد مرور 6 أيام على العدوان, وتقديمها الوعود بالدعم الكامل للكيان, وبإعلان موافقتها على عملياته العسكرية في غزة ..
للأسف استمر الدعم الأوروبي لإسرائيل حتى عندما بلغت أعداد أطفال غزة الشهداء في تموز الماضي 13 ألف طفل، ولم يوقف الإتحاد الاوروبي تنفيذ وعود فون دير لاين, التي لم تحترم تقرير خبراء الأمم المتحدة الصادر في آذار الماضي, الذي أدان "إسرائيل" بإرتكاب "الإبادة الجماعية", وفعلت الشيء ذاته مع أحكام محكمة العدل الدولية, واتهامات محكمة الجنائية الدولية السلطات الإسرائيلية بإرتكاب جرائم حرب في غزة.
من الواضح أن رئيسة المفوضية ترد دين من أعادوا إنتخابها لمنصبها, على حساب الدماء الفلسطينية, في تأكيدٍ لا يقبل الشك بأن الإتحاد الاوروبي يواصل شراكته مع اعتى المجرمين الصهاينة الذين يديرون اّلات القتل الإجرامية الإسرائيلية, ولم تفكر بفرض العقوبات بحقهم, في وقتٍ لم يوفر فيه الإتحاد والسيدة فون دير لاين فرض وتطبيق العقوبات الظالمة بدون أي وجه حق على عشرات الدول كسورية وإيران وروسيا والسودان وغير دول.
على الرغم من إدانات غالبية دول العالم والمنظمات الدولية كالأمم المتحدة واليونيسيف ومحكمتي العدل الدولية والجنائية الدولية, العمليات الإرهابية الإجرامية الإسرائيلية في غزة, ودعواتها الدول إلى اتخاذ الإجراءات المناسبة ضد الكيان الإسرائيلي المجرم، تجاهل الإتحاد الأوروبي هذه الدعوات بكل عدائية وانحياز لصالح مرتكبي جرائم الحرب والإبادة الجماعية, ولم يأبه لسفك دماء 40 ألف شهيدٍ فلسطيني, ناهيك عن أعداد الجرحى والمفقودين تحت الأنقاض ومن قضوا جراء الإعدامات الميدانية وفي المقابر الجماعية في مناطق توغل قوات الإحتلال الإسرائيلي, الأمر الذي يجعل العدوان والحرب على غزة يتصدران لائحة الحروب الأكثر دموية في القرن الحادي والعشرين, هل يمكنكم تصور أعداد الشهداء والضحايا - لا سمح الله - إن استمر العدوان لأيام وأسابيع إضافية.
ومع فظاعة الجرائم والمجازر الإسرائيلية, شعر الإتحاد الاوروبي بالإحراج أمام شعوب العالم, وأعلن فرض عقوبات على خمسة أفراد وثلاثة كيانات إسرائيلية، واعتبرهم مسؤولين عن "انتهاكات خطيرة وممنهجة لحقوق الإنسان", كعرقلة قوافل المساعدات والإعتداء عليها ومنعها من الوصول إلى قطاع غزة , كذلك فرضت الولايات المتحدة عقوبات على بعض المستوطنين المتطرفين واتهمتهم "بتأجيج العنف في الضفة الغربية المحتلة" , أما رئيس دبلوماسية الإتحاد الأوروبي جوزيب بوريل , فقد دعا بعد 310 يوم للعدوان الإسرائيلي إلى وضع موضوع العقوبات على "إسرائيل على جدول أعمال الإتحاد, ومناقشة فرض عقوباتٍ أوروبية على وزير المالية الإسرائيلي سموتريتش "لتصريحاته الشريرة المحرضة على إرتكاب الجرائم, وعلى وزير الأمن القومي بن غفير الذي دعا إلى قطع الوقود والمساعدات عن المدنيين في وقتٍ يضغط فيه العالم لوقف إطلاق النار في غزة – بحسب بوريل- .
إن شراكة ودعم الإتحاد الأوروبي للكيان الإسرائيلي لم تتوقف عند حدود دعمه المالي والسياسي والعسكري والإعلامي وفي المحافل الدولية والقانونية, بل تخطاه ليكشف مؤتمر سفراء الاتحاد الأوروبي لعام 2023 ازدواجية المعايير الأوروبية التي تظاهرت بدعمها حل الدولتين, في وقتٍ تستمر فيه بدعم "إسرائيل" بتدمير وحرق الأراضي الفلسطينيينة وتهجير أهلها.
إن تاكيد جوزيب بوريل مواصلة الإتحاد دعم الكيان الإسرائيلي "دون قيد أو شرط لحماية نفسه من الإرهابيين"، يشكل ذريعةً وفضيحةً لتبريرالشراكة المتوحشة مع الكيان لحماية أوروبا والإتحاد الأوروبي, قي وقتٍ ينسى فيه السيد بوريل أن أسلافه الأوروبيين كانوا شركاء في صناعة الكيان الإسرائيلي وزراعته في جنوب سورية وفي قلب العالم العربي لتحقيق مصالحهم.
بات واضحاً أن أفضل ما يمكن توقعه من الإتحاد الأوروبي هو ما جاء في بيانه الذي أصدره في منتصف أيار الماضي, ودعوة قادة الكيان "الإمتناع عن التسبب في تفاقم الوضع الإنساني الكارثي في غزة", حتى أنه لم يعلن حتى اللحظة موقفاً واضحاً من سياسة الإغتيالات التي تنفذها الولايات المتحدة والعدو الإسرائيلي خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة, وتحديداً في جريمتي إغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الشهيد إسماعيل هنية في طهران, والقيادي رفيع المستوى في حزب الله الشهيد فؤاد شكر في بيروت.
لكن البيان المشترك للولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا ألمانيا وإيطاليا في 12/اّب, جاء واضحاً وصريحاً لجهة تاييدهم سياسة واستراتيجية الإغتيالات التي ينفذها الإسرائيليون حتى خارج الكيان, وبأنهم يؤيدون الخروقات والإعتداءات الإسرائيلية على سيادة الدول لتنفيذ جرائم الإغتيال, خصوصاً مع تأكيد البيان على "استعدادهم للدفاع عن إسرائيل في حال حدوث الرد الإيراني".
لا بد للتظاهرات الشعبية في أوروبا ودول الإتحاد الأوروبي الداعمة لفلسطين ولوقف العدوان, من تصويب سهام التنديد بسياسة ونفاق الإتحاد, وتحميله وقادته مسؤولية أفعالهم الإجرامية ودعمهم المطلق للإبادة الجماعية التي تقوم بها قوات الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينين, والتي تتسبب بإطالة أمد الحرب وبإرتفاع إحتمالية توسعها إلى حرب إقليمية وربما عالمية.
م. ميشال كلاغاصي / كاتب وخبير استراتيجي
14/8/2024