كتب حليم خاتون:
منذ أواسط القرن الماضي، والإمبريالية وقوى الاستعمار تتلقى الصفعات، الواحدة تلو الأخرى.
من انتصار الثورة الصينية سنة ١٩٤٩، إلى طرد البريطانيين من الهند أولا، ثم من قناة السويس في مصر، إلى طرد الفرنسيين من الجزائر وانتصار الثورة الكوبية ، إلى اندلاع عدة حروب تحرير في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، لعل أبرزها حرب التحرير الفيتنامية التي هزمت القوة الاستعمارية الفرنسية في معركة ديان بيان فو، ليكمل الفيتناميون ضد الأميركيين الذين جاؤوا لنصرة الفرنسيين وحكومة العمالة في فيتنام الجنوبية.
حرب انتهت بمنظر الهروب الكبير في الطوافات من على سطح السفارة الأميركية في سايغون. حيث كان الأمريكيون يرمون العملاء الذين تعلقوا بهذه الطوافات كي يستطيعوا الهروب معهم...
سبق هذه الهزيمة الشنيعة، في سايغون، تململ شعبي في كل دول الاستعمار، رفضا لهذا الاستعمار وللمطالبة بالتوقف عن نهب الشعوب.
كانت الحركة الطلابية في أوروبا قد ملٌت من الديمقراطيات المزيفة، فخرجت مطالبة، بالإضافة إلى إنهاء الاستعمار، بالحقوق المدنية وإنهاء السيطرة، غير المباشرة، لأميركا وروسيا، على القارة العجوز التي كانت قد خرجت منهكة، من الحرب العالمية الثانية.
لم يكن يومٌ يمر دون تظاهرات، في كل مدن أوروبا، من انتفاضة الطلاب في باريس سنة ١٩٦٨، إلى تظاهرات الحرية في بودابست، الى تظاهرات الألمان في الدولتين الألمانيتين الشرقية والغربية، وصولا إلى ربيع براغ..
وإذا كانت العقلية الستالينية في الاتحاد السوفياتي قد جابهت هذه التحركات بالقمع المباشر وبالدبابات، فإن الأميركيين كانوا أشد ذكاء، حيث تراجعوا بضع خطوات لاستيعاب هذه التحركات، ريثما يتدبرون الأمور.
خرجت العبقرية الإمبريالية الغربية بعدة حلول، ليس فقط لإطفاء الثورات والتحركات والتظاهرات في مناطقها؛ بل أيضا لتوجيه هذه التحركات في معسكر الخصم "الاشتراكي" من أجل إسقاطه.
صحيح أن الطلبة والعمال حصلوا على بعض الامتيازات في أوروبا؛ لكن الصحيح أيضا أنه شيئا فشيئا، تمّت شيطنة اليسار الراديكالي الذي لم يفعل شيئا، للتصدي والبقاء بين الجماهير من جهة؛ وشجع الانشقاقات داخل هذه الحركات من جهة أخرى، (كما يحصل ضمن المقاومة الفلسطينية اليوم) وأضاف إلى هذا التكتيك، على الأقل، ثلاثة شُغف، لاستقطاب الجيل الجديد: المخدرات، كرة القدم، ومهرجانات الموسيقى.
كانت الإمبريالية لتكتفي بالمخدرات، لو أمكن, لكن الكثيرين كانوا أوعى من الوقوع في هذا الشرك.
ولهؤلاء الأصحاء ذوي العقول،جرى الدخول شيئا فشيئا إلى بيوتهم عن طريق مهرجانات السوبر ستار،وتلفزيون الواقع،ومتابعة ألعاب كرتي القدم والسلة، بشيء من اللامعقول.
لا يقلل أحد من جمال الموسقى، أو الرقص، أو الفنون الأخرى. ولا يقلل أي كان من أهمية بروز المواهب في هذه المجالات، للرقي بالثقافة البشرية. كذلك الأمر بالنسبة لكل أنواع الرياضة؛ لكن أن تصل الأمور إلى نوع من الإدمان على هذه النشاطات، الى حد التخلي عن التفكير بهموم الناس والمجتمع وكيفية النضال، لتحسين الأوضاع؛ هنا حلّت المصيبة.
لم تكد تحل الثمانينيات،حتى كان الشباب الأوروبي في الغرب لا يهتم بما يحصل في العالم الثالث، بعدما كان من أهم أنصارالثورة الڤيتنامية مثلا... بل صار همه مارادونا وميسي ورونالدو أو الليدي غاغا وأمثالهم.
وما بدأ موضة في الغرب، انتقل ليصبح مطلبا في الشرق، وصارت الحرية في البلاد "الاشتراكية" مرادفة لسماع الموسيقى أو ما شابه، حتى إذا ما انهارت هذه الأنظمة الديكتاتورية التي كانت تسمي نفسها اشتراكية، تحول معظم الجمهور الى مجموعات فاشية، عنصرية، منغلقة على نفسها إلى درجة التخلف.
وهذا الوصف ينطبق كثيرا على معظم شعوب أوروبا الشرقية. ماذا عن لبنان؟ ماذا عن الشرق والغرب العربي والآسيوي والإفريقي واللاتيني؟, بشكل عام، ينطبق عليهم هذا التحليل نفسه. أجيال لا هم لديها في الوطن غير البسط والكيف.لا أحد ينكر على الإنسان هذا المطلب.
ولكن أليس الأولى أن يكون عندنا وطن أولاً، ومن ثمّ نهيّء الظروف المناسبة لهذا البسط والكيف؟
حتى في عز الحروب كان الكثيرون، في لبنان وفلسطين، يهتمون بمتابعة بطولة العالم لكرة القدم، مثلا..
أما بلدان الخليج، حيث المخدرات والسكر والعربدة السرية في الطبقات العليا، فإن الوطن والكرامة والشرف تأتي في آخر اهتماماتهم، إن لم نقل إنّها لا تهمّهم.
ولأن المسألة الوطنية والقومية، في هذين البلدين: أعني لبنان وفلسطين، يحتلان حيِّزاً مهماً، كنتيجة مباشرة للاحتلال، انقسم المجتمع فيهما عامودياً وأفقياً.
- الانقسام الأفقي جعل الفقراء والطبقات الدنيا، في المناطق المحتلة والمناطق المحاذية لها؛ جعل هذه الطبقات تزخر بروح وطنية وثورية؛ بينما أفقيا أيضاً، لم تشعر الطبقات الدنيا في المناطق البعيدة أنها معنية بالمسألة الوطنية، وأصابها ما أصاب مجتمعات أوروبا الشرقية، من ميل إلى الفاشية والعنصرية تجاه شركائهم في الوطن.
- أما عامودياً، فالإنقسام في التفكير أخذ بُعداً طائفيا ومناطقيا، بحسب البعد عن المعاناة من وجود الكيان الصهيوني.
كان الغرب عامة، وخاصّةً الأميركيين، يتمنون أن يظل لبنان لعبة في أيديهم. كما كانوا يتمنون أن يستمر الضحك على الفلسطينيين إلى أن تنتهي القضية؛ لكنّ كثرة الضغط ولّدت مقاومات كادت تطيح بهم وبعملائهم.
وعندما فشلوا في كل مافعلوه، قرروا الذهاب إلى الحد الأقصى:التدمير الكلي.
لم تكن البيئتان: اللبنانية والفلسطينية، بعيدتين عن كل ما أسلفناه، لذلك وجد الأميركيون تربة خصبة، ليس للتصدي للثورة التي قامت بفعل ازدياد الضغوط الاقتصادية والمعيشية، بل لخطف هذه الثورة.
ساعدهم على ذلك وضع طائفي معقد، وسياسيون باعوا أنفسهم للشيطان.
بالإضافة إلى جهل سياسي وتاريخي واقتصادي وتنظيمي على كل الصعد، وفي كل الأحزاب والتنظيمات،يميناً ووسطاً ويسارا؛ جهل تجلى في أوضح صوره، عبر تحالف أمثال الياس عطا الله من الشيوعيين، مع الكتائب التابعة قلبا وقالبا إلى معسكر أعداء كل المقاومات الوطنية الشريفة.
يتفاخر كل فريق على الساحة بالوعي عنده!؟!؟
وبكل الصراحة الممكنة، أتباع الأميركيين والسعوديين والصهاينة، حتى وإن نفوا هذه التبعية، وعيهم لا يزيد عن المطالبة بطلب العيش، حتى ولو تحت الجزمة، والمثل الأبلغ، هو مطالبة بعضهم لعودة الاستعمار الفرنسي!!!
لكنّ المأساة في الوعي، موجود عند الطرف الوطني، الطرف المقاوم.
هؤلاء مولودون بالفطرة وطنيين ومقاومين؛ لكنهم هكذا بقوا، بقوا على فطرتهم. ولأنهم وطنيون لا يزال بالإمكان التعويل عليهم، للمقاومة والتصدي لأمريكا، في هذه المرحلة؛ لكن وعيهم الفطري هذا، لا يكفي لبناء وطن. وعيهم الفطري لا يسمح لهم بالنقاش والتفكير،للوصول إلى الأسمى؛ولأنهم كذلك، ولأن الآخرين بلا وعي وطني وقومي فعلي، استطاعت أميركا أن تخطف ثورتهم، وكادت تنجح في إلباس المقاومة ثوب الفشل، ويساعدها على ذلك الفاعلية المفقودة التي تميز بها من استلم المناصب من المقاومة في السنين الأخيرة دون أن يتميز بإنجاز معتبر أياً كان.
في ١٧ أوكتوبر، انتفض الشعب اللبناني. وبعفوية نزلت جماهير المقاومة إلى جانب كل الناس للمطالبة بوقف الفساد واستعادة المال المنهوب.وبسبب الأهداف الإستراتيجية، انسحبت هذه الجماهير وسلمت الناس إلى عملاء ال C I A, فبدل الشعور بالخجل لتخليهم عن هذا الوجه، عن هذه الناحية من النضال، راحوا يضعون الكل في نفس الخُرج، وكأن أسامة سعد،أو عمر واكيم أوغيرهما، كلهم مثل سامي الجميل...
من أصل أكثر من مائتي منصة في الحراك، لا يزيد عدد اتباع أميركا وكلابها عن بضع منصات، لكنّ أتباع المقاومة تساطروا، بإعطائهم أكثر مما يستحقون.
اليوم، في ١٧ أكتوبر، المطلوب من أنصار المقاومةجلسات تفكير هادئة، لاستعادة الزخم واستعادة الناس التي خسرناها بخطإٍ، قد يكون قاتلاً، إن لم يُتدارك، حتى ولو كان غير مقصود فهل من مستمع ومجيب؟