مقالات
الحقيقة والوهم.
م. زياد أبو الرجا 6 تشرين الأول 2024 , 21:45 م
(صعب اقناع الشعوب بمصالحها،الشعوب تطمئن الى كذب يريحها اكثر مما تطمئن الى صدق يقلقها ).
(( ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم )).
عندما تتعرض الشعوب الى القهر والضيق ولا تنتفض على واقعها فانها تلجا لاضفاء الامل على حاضرها التعيس لكي تصبح الحياة محتملة والعيش مقبولا. وغالبا ما يكون هذا الامل وهميا، لنأخذ مثلا وضع اليهود في القرنين السابقين على مجيء المسيح فقد كانوا ينتظرون مجيء " المخلّص" المسمى عندهم ( المسيا، الماشيح) الذي سوف يحقق وعد الرب لابنائه. الّا ان المسيحية فتكت باليهود في الثلث الاول من القرن السابع الميلادي عقابا لهم على مساعدتهم للفرس، فضلا عن غزو المسلمين لهم في ابتداء شأن الاسلام.غير ان المسلمين كانوا ارحم باليهود من المسيحيين، فلم يعرف تاريخ الاسلام قرارا امبراطوريا كهذا الذي اصدره ( هرقل)، ليلزم فيه اليهود باعتناق المسيحية وترك ديانتهم اليهودية، والّا احل، المسيحيون دماءهم.
المهم ان اليهودية سطعت فيها فكرة وهمية ظهرت في القرن الثاني قبل الميلاد تقول ان (( وعد الرب)) لن يتحقق، الّا مع ظهور بطل يهودي او نبي او مهدي منتظر او ماشيح، وهو الذي سيكون ملكا لليهود، سوف يعيد مجد المملكة اليهودية المندثرة( مملكة داود وسليمان) تطورت المسيحية فصارت خلاصا لكل البشر، وليس لليهود فحسب، بمعنى ان المسيح صار (( الفداء)) للانسانية كلها لان المجتمعات الانسانية كانت كلها تحتاج الى هذا الخلاص، وليس اليهود وحدهم.وانتشرت المسيحية باعتبارها (( بشارة )) من السماء للانسان، لكن الواقع الانساني لم يكف عن اضطرابه وظلمه للمساكين والضعفاء والمغلوبين، فكان على هؤلاء لكي يحتملوا واقعهم المرير، ان ينتظروا مرة اخرى(( عودة المسيح)) وهو الاعتقاد الذي اتخذ اشكالا كثيرة ، قديمة ومعاصرة، منها ما تعتقده جماعة (( شهود يهوه))الحالية، وهي جماعة تمزج بين اليهودية والمسيحية،وتدعوا الناس الى العمل من اجل التعجيل بعودة المسيح، وتجعل ذلك مشروطا باقامة هيكل سليمان من جديد، وهو ما يقتضي ازالة المسجد الاقصى من مكانه. وبالطبع فان هذا الامر من شانه تاجيج اوار الحرب بين المسلمين وغير المسلمين باعتبار ان هذا " المخلّص" الذي ينتظره غير المسلمين، لا ينتظره المسلمون المقدّسون للمسجد الاقصى ( اولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين).لكن المسلمين يؤمنون بعودة المسيح الذي لم يْقتَل وانما رفع الى السماء حيا، وان عودته تاتي مصداقا للاية القرأنية*كل من عليها فان..*
في التراث الاسلامي عرف ايضا منذ زمن قديم، فكرة المخلّص.ولكنه جعلها تحت عنوان ( المهدي المنتظر )الذي بحسب التعبير العربي الاسلامي، الشيعي خصوصا: سوف يملأ الارض عدلا بعدما ملئت جورا وظلما..ولم يختص الشيعة بالاعتقاد في المهدي المنتظر، وانما ظهر ايضا ولكن بدرجة اقل وضوحا، في المعتقدات الاسلامية السنية.لكن الشيعة عبر تاريخهم الطويل، عانوا من الاضطهاد ومن مرارة الشعور بالظلم، باكثر من السنة.ولذلك ازدهرت فكرة المخلّص ( المهدي المنتظر ) عند الشيعة،باكثر مما هي عليه عند السنة.
اذن لا تأتي فكرة المخلّص من فراغ، وانما تاتي من الفراغ السلطوي لجماعة مقهورة تتاسّى بالتعلق بالامل الذي يمتد في اذهان الناس قرونا، ثم يتوارثونه جيلا بعد جيل، فيشيع في النفوس ذلك الامل ( الخلاصي ) المخفّف لوطأة الواقع.
وهناك نماذج كثيرة من تارخ البشر، تدل على ان فكرة المنقذ (( المخلّص)) هي امل انساني يراود معظم الجماعات المقهورة او المعرضة للخطر او التي تعاني من مشكلات كبرى، اذا طال عليها الزمان وهي تعاني من ذلك من دون امل ( فعليّ ) في اصلاح الاحوال.غير ان خطورة هذا الامر لا تكمن في كونه املا مريحا للنفوس، وانما لانه يقعد بالناس عن العمل اللازم لخروجهم مما يعانون على اعتبار ان (( المخلّص )) هو الذي سيقوم بذلك ..لكن المخلّص لا يخلّص، ويبقى دوما مثل وهم لا يفعل في الواقع، الّا تبرير القعود عن العمل.وهناك من يعتقد ان (( التاريخ )) هو ترف فكري او معرفة نظرية مجردة.مع ان التاريخ في واقع الامر هو الخطوة الاولى لفهم الواقع المعيش، في جملته وتفصيلاته.
بعد انتصار جيوش الحلفاء على الجيوش العثمانية في الحرب العالمية الاولى واقتسام تركتها في الاقليم بين بريطانيا وفرنسا اعادت الى العقل العربي الحروب الصليبية التي اجتاحت المنطقة.عزز هذا الشعور عندما زار الجنرال الفرنسي هنري غورو قبر صلاح الدين وركله، وقال: (( استيقظ يا صلاح الدين.لقد عدنا وجودي هنا يكرس انتصار الصليب على الهلال )).
عندما خرجت بريطانيا وفرنسا من الباب وتم الاعلان عن استقلال العراق وسورية ولبنان والاردن.بعد ان اقتطعت فلسطين لتكون دولة الكيان القاعدة المتقدمة للاستعمار العالمي في الاقليم، وتهجير الشعب الفلسطيني من وطنه عبر المجازر الدموية والتطهير العرقي.توقفت حركة التحرر الوطني العربية الفعلية امام اخفاقاتها، وخصوصا في جبهة الصراع العربي الصهيوني وتراجع التنمية الاقتصادية والسياسية في الاقليم.مما فاقم ازمة الانظمة العربيةالتي هُزِمت في حروبها مع الكيان، وعجزت عن حل مسألة الفقر والبطالة والعوز مما عمق الشعور الجماهيري بالقهر والظلم والجور والاذلال القومي.محصلة هذا كله دفع الشعوب الى التعلق بامل " المُخلّص"المتجسد بالخليفة الاسلامي الذي يجيش الجيوش استجابة لصرخة امرأة في احدى الثغور( وامعتصماه )او الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز.اما بالنسبة لفلسطين وتحريرها فقد تجسدت شخصية المنقذ " المحرر" بشخصية صلاح الدين الايوبي الذي استعاد القدس من الصليبيين.لكن هذا المنقذ " المحرر" صلاح الدين صارت عودته مشروطة بصلاح دين الناس، واشتد التعلق بهذا الامل بعد ان تخلى العرب والمسلمون عن فلسطين ودخلوا في معاهدات صلح وتطبيع وبعضهم في تحالف مع الكيان مما زاد وضاعف من حالة القهر الديني والوطني والاذلال العام.وبما ان دين الاجيال المعاصرة قد تم افساده عبر الغزو الثقافي الغربي وفساد الانظمة والسلطات، فان عودة المخلص صلاح الدين تبقى وهما من الاوهام الذي لا يمكن تحقيقه.وعليه تقعد الشعوب وتستكين وترتاح لما يعفيها من العمل الجاد لتحول الامل والحلم الى حقيقة على ارض الواقع.
قامت الثورة الاسلامية الايرانية بالاطاحة بنظام الشاه الذي جعل من ايران احد اهم الركائز الامريكية الثلاث في الاقليم.كانت الثورة الوحيدة التي اعطت " للمُخلّص " عمقا جدليا وبعدا عمليا عمل على استنهاض همم الناس القاعدة عن العمل والتي تنتظر المخلّص الذي جسده الامام الخميني، وصار المخلّص وجمهور المستضعفين والمقهورين الذين امنوا بان الخلاص يكمن في قدرتهم الجمعية التي ايقظها الامام، والمتفاعلة مع قيادته التاريخية تقود الجماهير نحو التخلص من المستبد واستلام السلطة.انها المرة الاولى في التاريخ الاسلامي التي ينجح المستضعفون في الاستيلاء على السلطة التي تحمي مصالحهم وتحقق امالهم .وزاد التوتر الاقليمي بعد نجاح ثورتهم التي ادت الى تضرر قوى اقليمية ودولية، فقامت بالتحريض على الحرب العراقية الايرانية بسبب التوجهات الثوريةللجمهورية الاسلامية (( امريكا هي الشيطان الاكبر والكيان غدة سرطانية يجب ازالتها ونصرة المظلومين والمستضعفين في العالم بصرف النظر عن دينهم وعرقهم )) وافشلوا كل الحروب التي اججتها امريكا ضد دولتهم.
كان حزب الله في لبنان احد اهم تداعيات انتصار الثورة الاسلامية في ايران.حيث استطاع حزب الله ان يحرر لبنان من الاحتلال الصهيوني الذي فر جيشه تحت النار في ايار ٢٠٠٠ واحبط حزب الله مشروع الشرق الاوسط الجديد الذي قدمته كونداليسا رايس وحاولت امريكا فرضه بالقوة المسلحة للقضاء على حزب الله العقبة الصلبة امام المشروع.شكل حزب الله القوة اللبنانية الوطنية التي تردع الكيان وتحبط مشاريعه التوسعية انتشل حزب الله المواطنين الجنوبيين من حالة التهميش والقهر الى حالة العزة والكرامة والكبرياء الديني والوطني وصار حزب الله قوة اقليمية لا يمكن. تجاوزها في معادلات الاقليم.وتحول المهمشون بقيادة السيد حسن نصر الله الى " مُخلّصين" لانفسهم عوضا عن انتظار " المُخلّص" فتبددت اوهامهم وتحققت امالهم.
نهضت حركة انصار الله في اليمن من رماد التخلف والتهميش وصارت قوة اقليمية متعاظمة عندما تولى السيد عبد الملك الحوثي قيادة اتباعه وخلصهم من القهر والتهميش وحولهم الى قوة يحسب حسابها في الاقليم ويعود ذلك الى انتصار الثورة الاسلامية في ايران.
عندما عاد الامريكي الى العراق بذريعة محاربة ( صنيعته داعش) التي عاثت خرابا ودمارا في العراق وسورية واستقطبت حولها كل الارهاب الدولي اصدر السيد السيستاني فتوى تشكيل الحشد الشعبي الذي سلحته ايران واعترفت بشرعيته الدولة العراقية.والان هو جبهة من جبهات الاسناد لغزة وفلسطين.
استنفرت امريكا وجندت كل ما لديها من قوى ووسائل اعلام مسموعة ومرئية ووسائل التواصل الاجتماعي وال NGO لاشاعة التشكيك بنوايا ايران التوسعية وان حزب الله والمقاومة العراقية وانصار الله في اليمن هم اذرع ايران الشيعية ضد العالم السني وطرحت نظريات الهلال الشيعي والانتقام الفارسي من العرب .لم يكن هدف امريكا الاستراتيجي من هذه الحرب العسكرية والسياسية والاعلامية هو القضاء على هذه الاذرع، وانما منع انتشار الظاهرة من الامتداد الى جمهور العالم العربي السني المقهور والمظلوم داخليا وقوميا على يد الكيان وعجز الانظمة عن المواجهة التي ذهبت الى التطبيع الطوعي مع العدو الصهيوني وتحالف بعضها معه.
بعد توقيع مصر اتفاقية كامب ديفيدعبر وزير الخارجية الامريكية لقادة الكيان وقال: (( لقد سلمتكم امة نائمة لمدة مائة عام.لكن اذا استيقظت هذه الامة فلن تصمدوا امامها عام واحد )).فكانت الثورة الايرانية الرد الاولي والمباشر على مقولة كيسنجر وقامت بملء الفراغ الذي تركته مصر طوعا.وحضرت ما اطلق عليها اذرع ايران الى حلبة الصراع مع الكيان بقوة.
ان طوفان الاقصى وجبهات الاسناد لغزة وفلسطين وحرب الاستنزاف هي التي تدق الان ابواب الوطن العربي ليصحو من غفلته، لان في هذه الصحوة نهاية الكيان ونهاية سايكس بيكو التي صارت من الماضي الاستعماري البغيض الذي افرز وعد بلفور والكيان العنصري الذي يخوض الان حربه الوجودية على كل الجبهات التي لن تنتهي الا بازالته من الوجود
م/زياد ابو الرّجا.
المصدر: موقع إضاءات الإخباري
الأكثر قراءة
قصة الحلاج ونشيد والله ما طلعت شمس ولا غربت وموسيقى صوفية..
انشودة, أتظن أنك عندمـــا أحـــرقتنــي.. ورقصت كالشيطان فوق رفاتي
كتب :أ .د .نسيب حطيط - بيروت: المقاومة الثقافية, حتى لا تضيع التضحيات... بين التعويضات واعادة الإعمار!
أنشودة يا إمامَ الرسلِ يا سندي, إنشاد صباح فخري
هل تريد الاشتراك في نشرتنا الاخباريّة؟
شكراً لاشتراكك في نشرة إضآءات
لقد تمت العملية بنجاح، شكراً