على انقاض الامبراطورية العثمانية في المشرق العربي اقامت الدول الاستعمارية المنتصرة في الحرب العالمية الاولى كيانات عربية خاضعة لانتدابها، ورسمت حدودها حسب اتفاقية سايكس بيكو تكونت من العراق، سورية، الاردن ولبنان.اما فلسطين فقد خضعت للانتداب البريطاني لكي ينفذ ويطبق وعد بلفور للحركة الصهيونية العالمية لانشاء الكيان الصهيوني القاعدة المتقدمة في الشرق الاوسط.بعد استقلال هذه الدول تم اضفاء القدسية على خرائط سايكس بيكو من قبل الحكومات العربية وشعوبها.
بعد الحرب العالمية الثانية وقيام دولة الكيان على ارض فلسطين بدات الشعوب العربية ونخبها تتحسس الخطر الصهيوني على وجودها، وعلى مستقبل الاقليم وشعوبه ، وتعرض بنيانه ونسيجه الثقافي والقومي والديني وتاريخه العريق الى التهميش وعدم الفاعلية.وتبقى الدول الاستعمارية تفرقه سياسيا وتستنزفه اقتصاديا.
بعد ثورة تموز / يوليو ١٩٥٢م في مصر احتلت مصر مكانتها وزعامتها في الاقليم ، ولعبت ادوارا ثلاث اولها القومي العربي وثانيها الافريقي وثالثها الدولي .نجحت مصر الناصرية في لعب الادوار الثلاثة بنجاح نسبي اهمه القومي.وانجزت مشروع الوحدة مع سورية الذي ادى الى قيام (( الجمهورية العربية المتحدة)) وشكلت قوة عسكرية مقاتلة مؤلفة من ثلاثة جيوش ، الجيش الميداني الاول ( الجيش العربي السوري) والجيش الميداني الثاني والجيش الميداني الثالث ( الجيش المصري)
شهدت تلك الحقبة محاولات جادة لبناء الدولة في كل من مصر وسورية والعراق وقامت ببناء الجيوش الوطنية ذات العقيدة القومية ونجحت في ذلك .مما جعل هذه الدول الثلاث محط انظار القوى الاستعمارية والكيان الصهيوني وكيف قام الكيان بدعم وتسليح اكراد العراق لاضعاف الجيش العراقي ، وتحالف قوى الاستعمار مع الرجعيات العربية التي لا تؤمن بالوحدة القومية ولا بالوحدة الدينية بالتامر عل مصر الناصرية وسورية في حرب حزيران ١٩٦٧ بتوجيه ضربة قاصمة للجيشين المصري والسوري.وتؤكد الوثائق التي رفعت عنها السرية صحة هذا.لم يكن في مصر انقسام بين القومي وتلديني على مستوى القاعدة والشارع فخرجت مصر عن بكرة ابيها الى الميادين والساحات تهتف بصوت واحد (( حنحارب، حنحارب، حنحارب)).وارغمت جمال عبد الناصر ان يعدل عن قرار التنحي والعودة لقيادة مصر .رفع عبد النصاصر الشعار الخالد (( ما اخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة )) .وقام بتنظيف الجيش المصري من البيروقراطية والشوائب التي علقت به، وسلم قيادة الجيش للجنرالات الاكفاء وفوضهم باتخاذ ما يرونه مناسبا، ووضع نفسه كرئيس للجمهورية تحت تصرفهم ليلبي طلباتهم المتعلقة باعادة بناء الجيش وتزويده بكل ما يحتاجه من اسلحة وذخائر.عندما كان يذهب الى الاتحاد السوفياتي لطلب السلاح كان يصطحب معه جنرالات الجيش المصري لكي يوضحوا لنظرائهم الروس ما يحتاجونه.وما هي الا اشهر قليلة حتى قرر جنرالات الجيش المصري تعميد جيشهم بالنار .وخاض الجيش المصري حرب استنزاف ادمت العدو ووجهت له ضربات قاصمة واعادت الثقة بالنفس للمقاتل المصري. كذلك فعل الجيش العربي السوري وكانت الجبهتان تنسقان مع بعضهما في حرب الاستنزاف والاستعداد لحرب ازالة اثار العدوان.
كانت حرب تشرين الاول/ اكتوبر ١٩٧٣م ثمرة هذا الجهد الجبار .فاجئت هذه الحرب الكيان وادخلته في حرب وجودية لولا قبول السادات بوقف اطلاق النار مما كشف الجبهة السورية امام القوات الصهيونية التي انتقلت على عجل الى الجبهة الشمالية واعادت احتلال ما تحرر من الجولان ووضعت دمشق في داىرة التهديد والاحتلال.فيما بعد وقعت مصر على اتفاقية كامب ديفيد وخرجت من دائرة الصراع مع الكيان واخلت مكانها في الاقليم.
قال رئيس الدبلوماسية الامريكية هنري كيسنجر بعد حرب تشرين لقادة الكيان والبنتاجون : (( يجب الا يتكرر هذا مرة اخرى)).
لقد اراد الرئيس السادات ان يغطي على خروجه من الصراع ان يجمع السلطتين العسكرية والروحية، فراح يعتكف بسيناء في (( وادي الراحة)) ويطلق على نفسه (( الرئيس المؤمن )) متناسيا انه رجل عسكري ، وانه بهذه (( العسكرية)) حكم البلاد.ولتأكيد انه ( مؤمن ) اطلق مارد الجماعات الدينية المتطرفة التي استوحت لنفسها فكرة (( الخلافة )) فكرة (( الامارة)) فصار لكل جماعة ( اسلامية ) امير ( جماعة) ترى في نفسها انها فقط الاسلامية ، وبقية المسلمين هراطقة.وما لبث الناس الذين احسنوا الظن في البداية بالجماعات الاسلامية ( المتأسلمة ) المتطرفة ، ان اكتشفوا الحقيقة البسيطة القائلة ان هؤلاء المتأسلمين هم مجرد جماعة ساعية الى السلطة .وان هؤلاء (( الامراء)) ليسوا (( خلفاء)) وانما رؤوس ارهاب نسوا ان الدعوة الالهية ( القرأنية) كانت لاعداد العدة لارهاب * عدو الله وعدوكم واخرين من دونهم لا تعلمونهم * فاذا بهم يرهبون المسلمين والمسيحيين وعموم المصريين ، فيفرح بارهابهم لنا عدو الله ، وعدونا واخرين من دونهم لا نعلمهم.وهكذا ادخل الرئيس المؤمن والمؤتمن على اتفاقية كامب ديفيد مصر والمصريين في صراع الطوائف والمذاهب.وتخلت مصر طواعية عن دورها الاقليمي والدولي ، وانحسرت داخل حدودها الجغرافية ووقعت تحت سطوة الدائنين الذين يستنزفون اقتصاد البلاد ويتحكمون بقوت العباد.
بعد ذلك توجهت امريكا وعربانها والناتو الى العراق وورطته في حرب مع ايران واستنزفت اقتصاده وقواته وقواه البشرية وانتهت باحتلاله وتقسيمه الى ثلاثة اقاليم طائفية وعرقية وعكست نفسها على تقاسم السلطة في العراق.الرئاسة للاكراد ورئاسة الوزراء للشيعة ورئاسة البرلمان للسنة.وانتهت اسطورة الجيش العراقي حارس البوابة الشرقية للوطن العربي.
وفيما يسمى الربيع العربي تم اسقاط النظام في تونس ووقعت في قبضة الاخوان وتم اسقاط النظام في مصر وصارت تحت حكم الاخوان وتم اسقاط الدولة الليبية وصارت تتقاسمها القبائل والغرب استولى على احتياطها المالي المقدر بمئتي مليار والنفط ينهبه الغرب بلا حسيب او رقيب.بعد ذلك انتقلت كرة النار الى سورية لاسقاط الدولة وليس النظام واحتلال عاصمة الياسمين وعرين الاموين واحتلال مسجدهم في دمشق بواسطة السلطان العثماني وعصابات الاخوان المسلمين وقوى الارهاب الدولي لاسقاط الدولة التي ما زالت تحتفظ (( بالخميرة الاموية المقدسة)) كما (( الكاس المقدسة))
(( The Holy Grail ))التي يحرسها الجيش العربي السوري والدولة السورية.وفشلت كل المحاولات لانتزاعها.وسقطت اوهام اردوغان والاخوان الذي اراد ان يقيم صلاة الجنازة في المسجد الاموي على العروبة والعروبيين.
بعد وقف اطلاق النار الهش على الجبهة اللبنانية قدم اردوغان اوراق اعتماده لامريكا والكيان لانتزاع حلب واجزاء من الشمال السوري وضمها الى سلطنته مقابل اسقاط الدولة السورية تمهيدا لتقسيم سورية على اسس طائفية وعرقية والتي سيكون من تداعياتهاتقسيم العراق الى ثلاثة دويلات مستقلة ومتناحرةدولة شيعية في الجنوب ودولة كردية في الشمال ودولة سنية في الانبار.
ما يجري الان في سورية ليس حدثا محليا ولا هو حدث اقليمي ، انما هو حدث دولي يتعلق بايران وروسيا والصين وعلى نتائجه سيتقرر مصير النظام العالمي متعدد الاقطاب ومشروع الصين المسمى بطريق الحرير او الحزام والطريق الذي تقاومه امريكا بشدة وكاجراء اولي قامت بالتامر مع الطغمة العسكرية الباكستانية وانقلبت على حكومة عمران خان التي وقعت مع الصين على اتفاقية الحزام والطريق وقبل ذلك اسقطت حكومة عادل عبد المهدي الذي اراد توقيع اتفاقية التعاون مع الصين، كما اقدمت ايران على توقيع اتفاقية التعاون الاستراتيجي مع الصين.كل ذلك كان من اجل ان تصل الصين الى السوق الاوروبية وربطها مع طريق الحرير الذي تشكل سورية وتركيا البوابة الواسعة للمشروع الصيني.ترعى امريكا مشروع الكيان الكردي في شمال العراق الذي يتصرف كدولة مستقلة عمليا، حيث القنصليات الاجنبية والمطارات وقاعدة اربيل العسكرية الامريكية الصهيونية وتصدير النفط .كما ترعى قسد الانفصالية في الشرق السوري.لكن الاخطر من ذلك كله انها بعد ان ينفذ اردوغان مشروعه في سورية، ستنقلب عليه امريكا وتقيم كيان كردي في جنوب تركيا يمتد من كردستان العراق وصولا الى سواحل البحر الابيض المتوسط وهو مطلب وطني وقومي واخلاقي للشعب الكردي في كل كردستان (من ايران الى العراق وتركيا) وسيقدم الاكراد ارواحهم في سبيل الحصول على استقلالهم اسوة بالامم الاخرى.وبهذا يشكل الكيان الكردي الحاجز والسد المنيع بين سورية واوروبا لقطع طريق الحرير الصيني.وتصير سورية بين كيان صهيوني يتوسع وكيان كردي يترعرع.
ان سقوط الدولة السورية سيؤدي الى حرب شوارع في موسكو وطهران، وستهيمن امريكا على قلب اسيا ويسقط مشروع بوتين الذي نظر له الكسندر دوغين ( مشروع الاوراسيا).مما لا شك فيه ان كلا من موسكو وبكين وطهران على معرفة يقينية بابعاد ما يجري في سورية .وانها معركة مفصلية ووجودية ولانها كذلك فان الاستعداد لخوضها لن يكون ارتجاليا او ردة فعل هستيرية غير محسوبة ومدروسة بعناية.
الجيش العربي السوري ما زال يرصد ما تخبؤه امريكا في الشرق السوري وخاصة تدمر ودير الزور والقامشلي والبوكمال.لذلك لا نراه ينخرط في مواجهات كبرى مع عصابات اردوغان والناتو.حين تكمل بغداد ودمشق وطهران وموسكو وبكين استعدادها لخوض المعركة الفاصلة سيرى العالم بأس الشرق وسيرى (( الخميرة الاموية)) تفعل فعلها في العجينة العربية وكما رسمت خريطة سايكس بيكوبالدماء ، الان يتم تمزيقها بالدماء. وسنرى المحللين الماجورين لقنوات الجزيرة والعربية والعربي والسكاي نيوز كيف سيكون موقفهم بعد ان تلحق الهزائم بفلول الناتو وعصابات اردوغان وسنرى تداعيات ذلك على الداخل التركي الذي سيحاسب اردوغان كما حاسب عدنان مندريس.
م/ زياد ابو الرجا