أميركا، إيران وطبخة الرز
مقالات
أميركا، إيران وطبخة الرز
حليم خاتون
16 آذار 2025 , 15:46 م


كتب الأستاذ حليم خاتون:

أثناء الحرب الأهلية في لبنان، في احد معسكرات التدريب على مجموعة من التلال تتوسط بضعة قرى لفصيل صغير من اليسار الحائر بكيفية التصدي للاستعمار بين ماركس ولينين وروزا لوكسمبورغ وماو تسي تونغ وتشي غيفارا... وصولا إلى الرفيق كيم إيل سونغ مؤسس كوريا الشمالية، وجد الزعيم المطلق الحالي لهذا البلد، اختلف الرفاق على مسألة تحضير الطعام...

 

لم يكن بالإمكان الاكتفاء بالمعلبات والبيض طيلة فترة دورة التدريب التي لن تقل عن ثلاثة أشهر على الأقل...

تم الاتفاق على المداورة في هذه المسألة إلى أن وقع الدور على صاحبكم ورفيق آخر له يعرفان في مستقبل كيم إيل سونغ أكثر بكثير من أبسط طبخة...

اقترح الرفيق تحضير وجبة من الرز مع الحليب وطبعا السكر؛ هكذا يتم تأمين طعام ساخن، وفي الوقت عينه يتمتع الرفاق ب"تحلاية"...

بعد غسل الرز، تم رميه في برميل من المياه على الحطب لإضافة السكر في النهاية...

تبخر الماء دون أن ينضج الرز حتى قبل إضافة السكر...

علميا، رأى (عالما الطبخ!) وجوب إضافة مزيد من الماء...

لكن غياب منطق المعايير في الطبخ الذي تعرفه معظم الأمهات،؛ ووجوب إضافة مياه ساخنة جدا للرز؛ كل هذا لم يكن ضمن معادلاتنا في الطبخ التي لا شان لها بدورة التدريب، من وجهة نظرنا على الأقل...

المهم، انتهى الأمر بأن "طلعت" طبختنا طبخة "بحص" واكتفى الجميع بأكل ما تيسر من المعلبات والقسم أمام الله بعدم السماح لنا بالاقتراب من اي مطبخ ما حيينا...

فجر اليوم قرر دونالد ترامب تأديب شعب اليمن؛ ذلك الشعب الأبي الملئ بكل ما تعنيه كلمة كرامة والذي لم تنجح أي إمبراطورية من الإمبراطوريات التي عرفتها البشرية في الصمود أمامه...

بماذا فكر مستشارو ترامب قبل "تغطيسه" في جبال اليمن المتحركة؟

معظم مستشاري ترامب لا يقلون غباء عنه في مسائل، كما لا يقلون عنه ذكاء في مسائل أخرى...

للحقيقة، يتبن أن الرجل ليس بالغباء الذي تصوره به الصحف والميديا؛ لكنه قطعا لا يفهم أن اليمن سوف يكون كما كان طيلة الدهر، مقبرة للغزاة...

هنا خان الذكاء دونالد ترامب...

ربما لن يستطيع اليمن الرد على الضربة بالمثل رغم امتلاكه لصواريخ هي بالتأكيد اكثر ذكاء من بعض مستشاري ترامب...

القوة التي يهدد بها ترامب اليمن، هي نفس القوة التي خاض بها بايدن الحرب ضد البلد طيلة السنة الماضية، وفشلت فعلا ذريعا...

سيقفز بعض الأعراب "الأشد كفرا من اليهود" عن كنباتهم قائلين. لكن ترامب غير بايدن...

هذا صحيح، لكن الفرق بين بايدن وترامب هو في الشكل فقط!...

الإثنان صهيونيان؛ بل ربما بايدن اكثر صهيونية من ترامب...

لكن الأمر لا يُختزل في من هو الأكثر صهيونية، او الأكثر وحشية...

الشيء الوحيد الذي لم يستخدمه بايدن ضد شعب اليمن الأكثر عراقة والأكثر عمقا في التاريخ من كلا الحضارتين الاميركية والبريطانية هو سلاح التدمير الشامل...

هل سيفعلها ترامب؟

لنفترض أن هذا الرجل ركب رأسه واستعمل هذا السلاح للتدمير الشامل...

كم قنبلة يحتاج لتدمير كامل اليمن؟

بل وسط جهل أميركا وبريطانيا وإسرائيل بما يملك اليمن من سلاح ومواقع متفرقة لهذا السلاح، على عكس ما كان الحال مع لبنان الذي ظل تحت المراقبة الاطلسية الشاملة الكاملة طيلة ثمانية عشر عاما؛ وعلى فرض أن الطيران الأميركي البريطاني ومعه إسرائيل قاموا جميعا بآلاف الغارات على جبال اليمن؛ الن يبقى جبال او تلال خارج هذا الغطاء الجوي سوف تشعل كامل قواعد الغرب في الخليج وتقفل البحرين الأبيض المتوسط والأحمر فيصعد برميل النفط إلى مستويات لن تفيد لا الأميركيين ولا البريطانيين لكنها بالتأكيد سوف تجعل الإقتصاد العالمي في خطر الانفجار...

وعندما ينفجر هذا الإقتصاد تندلع الحروب فيقع ترامب في وجه طبخة لا يعرف المعايير ولا المقادير فيها...

الأرجح ان غبيا ما في إدارة ترامب من صهاينة المحافظين الجدد أوحى له أن ضرب اليمن سوف يؤدي إلى تأديب إيران؛ لكن شيئا غاب عن بال هذا الغبي...

اليمن ليس حزب الله، دون أن يعني هذا الإقلال من قيمة الحزب...

لكن اليمن لا يعتمد بشكل كبير على إيران كما هو وضع حزب الله...

حتى لو استمرت إيران في سياسة النعامة بغرس رأسها في الرمال كي لا ترى الخطر؛ لن يمنع اي كان على وجه البسيطة اليمنيين من توجيه ضربات سوف تجعل ترامب واتباع ترامب في المنطقة يرقصون على أربعة ورأسهم الخامس...

لكن المنطق يقول إن ما فعله اليمنيون مع بايدن سوف يفعلونه مع ترامب...

سوف يضربون سفينة كل بضعة أيام بصاروخ حتى لو لم يصب هدفه ماديا، لكنه بالتأكيد سوف يصيب العنجهية الأميركية والبريطانية باضرار معنوية أكبر بكثير مما قد يحترق في البحار، ويجعل من ترامب واميركا مهزلة تتحدث عنها الصحف والميديا بكثير من السخرية...

الحرب التي أطلقتها أميركا على اليمن بمعية الجرو البريطاني الذي تزيد قوة نباحه على حجمه سوف تظل بلا قيمة دون الدخول إلى اليمن بريا...

هل ترامب مستعد لهذه المغامرة في غزو بلد لم ينجح اي غاز في إخضاعه؟

فعلها جونسون قبله في فيتنام فخرجت أميركا من هناك بجروح بالغة كادت تؤدي بها إلى التهلكة، ولا يزال هذا الجرح ينكأ عقل كل أميركي حتى يومنا هذا...

فعلها قبله بريجنيف في أفغانستان، فانهار الإتحاد السوفياتي بعد عقد على غزو هذا البلد...

دونالد ترامب، أهلا بك في اليمن مقبرة الامبراطوريات...

نأتي الى الإخوة في إيران الذين يمدحهم البعض على سياسة حياكة السجاد والصبر الاستراتيجي والتعويل على روسيا والصين كما حاولت إيران الإيحاء في المناورات الأخيرة...

فقط بعض الأغبياء لم ير كيف تعاملت روسيا مع إيران في سوريا...

فقط هؤلاء الاغبياء لم يفهموا كيف تمت صفقة بيع سوريا للأتراك والاسرائيليين القابعين في حضن الأميركي مقابل أوكرانيا والقضية الكردية...

كما أن التعويل على الروس لا يجدي، كذلك الأمر بالنسبة للصين...

ترامب، على خلاف بايدن في هذه المسألة، لا يهتم لمسألة تايوان إلا فيما يختص بصناعة انصاف المحولات هناك...

لقد فتحت أميركا كل الأبواب لانتقال هذه الصناعة من تايوان إلى الولايات المتحدة...

كل ما يريده ترامب هو بعض الوقت لإتمام هذا الإنتقال يقضيها في السيطرة على المضائق والطرق البحرية الرئيسية...

بعد ذلك لن يهتم لأمر تايوان على الإطلاق وقد يصل إلى تسوية تقضي بضم تايوان سلميا الى الصين بعد تجريدها من كل قوتها في الذكاء الصناعي الذي تتقدم فيه الصين بخطى سريعة واكيدة ومضمونة في كل الأحوال...

إذا، التعويل على روسيا والصين في المدى المنظور على الأقل هو كما التفتيش عن الحياة في مجرتنا الشمسية... ممكن، لكن صعب جدا... في المستقبل المنظور على الأقل...

لا تستطيع إيران الوصول إلى تسوية مع أميركا دون التخلي عن جزء كبير من سيادتها...

لن تسمح أميركا لإيران إن تكون الضلع الثالث في السيطرة على الشرق الأوسط مع تركيا وإسرائيل دون التحالف مع هذه الأخيرة...

يقول الاميركيون للإيرانيين، افعلوا كما إردوغان...

هاجموا إسرائيل بالكلام قدر ما تريدون لكن دون إرسال ولو مسدس واحد للفلسطينيين او لبنان...

هكذا يفعل إردوغان دون اعتراض...

تركيا شريك اقتصادي وعسكري إلى أقصى مدى مع إسرائيل...

لكن كل كلام إردوغان لا يخضع للجمارك... أي بلا حساب... صفر على الشمال...

هو مع فلسطين بلسانه، وعلى فلسطين بأعماله...

الإصلاحيون في إيران قبلوا بهذا الأمر لأن هذا سوف يعود ويجعل من إيران القوة الإقليمية الكبرى في الخليج وفي الجزء الأكبر من آسيا الوسطى...

التيار المحافظ لا يستطيع ذلك...

فقهيا، هكذا أمر لا يمكن أن يمر...

ثم ان مشروع إيران الاستراتيجي القائم على نظرية أم القرى في العلاقة بين طهران والعواصم العربية يصطدم بمشروع إسرائيل الكبرى الذي يريد السيطرة المباشرة على معظم هذه العواصم..

بل أن إيران تطمح لكي تكون الضلع الرابع في مربع السيطرة على الشرق الأوسط إلى جانب تركيا ومصر والسعودية، وهذا لا يمكن تحقيقه قبل القضاء على إسرائيل وإزالتها من الوجود...

المشروع الاستراتيجي الإيراني لا يمكن أن يتعايش مع المشروع الاسرائيلي...

قد يقول البعض إن المشروع العثماني كذلك؛ لكن العلاقة الحميمة المعقدة بين أنقرة وتل أبيب تشي بالعكس تماما...

على الأقل حتى اليوم...

تركيا تنافس إسرائيل دون وجود نية القضاء عليها، بينما يختلف هذا الوضع مع إيران...

لكن حتى الآن، لا يبدو أن الإيرانيين تعلموا من اخطائهم السابقة المميتة التي أدت إلى خسارة محور المقاومة لمعظم مقدراته بسبب عدم معرفة الإيرانيين بمعايير ومقادير الطبخ لنجاح مشروع الشرق الجديد الكبير دون إسرائيل...

لكن...

أكثر الحمقى في هذا الشأن يبقى النظام الرسمي العربي الذي "يُخبّص في المعايير والمقادير إلى درجة حرق الطبخة والبقاء جائعا ينتظر من أميركا إطعامه مما سرقته سابقا من المطبخ العربي، وما تسرقه كل يوم من "المونة" من هذا المطبخ...


المصدر: موقع إضاءات الإخبراي