" قصّة قصيرة "
وسائلُ التواصلِ مشغولةٌ بعاصفةِ الغبارِ القادمةِ من بعيد.
الدفاعُ المدني ، ومصلحة الأرصاد الجويّة والحكماء والأطباء يحذّرون من خطورة إطلاق المفرقعات النارية، ومن إضرام أيِّ نارٍ تتسبب بمخاطرَ جسيمة، وبحرائقَ يصعُبُ السيطرةُ عليها، فتأتي على مِساحاتِ الغاباتِ الحِرجيّة وغيرها بأكملها، آكلةً الأخضرَ واليابس.
جماعةُ القططِ الصغيرةِ منقسمةٌ على نفسِها، بين بيضٍ وسود.
القططُ السودُ منها ميّزت صدورَها بشاراتٍ حُمرٍ، دلالةًعلى رؤوسها الحامية . بعضُها وجدَ في العاصفةِ فرصةً سانحةً لتنفيذِ مخططٍ أُعِدَّ لها سابقًا.
ارتدت ثيابًا جديدةً مرقطةً مقدَّمةً هبةً من مصانعَ أجنبيَّة، تشبُّهاً بالنمور، وتجهَّزت بالمفرقعاتِ استِعدادًا لِوصولِ العاصفة.
طارتِ الأخبارُ وانتشرت، وإلى سمْعِ النَّمِرِ الكبيرِ وصلت، فأسرع إلى عقدِ جلسةٍ طارئة.
حضرتِ القِططُ مُسرِعةً، يتقدَّمُها كبيرُها، منتفخَ الرأس. مزهوًّا بخارطةِ الحرائقِ التي يُمَهِّدُ لإبادتها في هذا المُناخِ العاصف. أُذُناهُ كبيرتانِ، لكثرةِ ما عوَّلَتِ الريحُ فيهما، ونفخت.
حدَّقَ النَّمِرُ جيّدًا. راعَهُ المشهد، فالمفرقعاتُ الناريّةُ بأيدي الصِّغارِ، قد تُشْعِلُ الغابَ، بِسُرْعَةٍ فائقة، نظرًا للهشيم المتراكم فيها، منذ زمن، فتوجّه إليهم قائلًا:
-- ألم تسمعوا تحذيراتِ الحكماء، وخبراءِ المُناخِ الذين نبَّهوا من خطورةِ هذا الأمر؟
-- سمعنا ، ووصولَ عاصفةِ الغبارِ انتظرنا، ولهذا أتينا طالبين إليك دعمنا .
-- وَيْحَكُمْ!! أتعملونَ على إحراقِ الغابِ،عن سابقِ تصورٍوتصميم، وتريدون مباركةَ هذه الجريمةِ النكراء؟!
سبق لكم وأَضْرَمْتُمُ النارَ فيها، فماذا جَنَيْتُم سِوى الخراب؟
لِمَ لاتتّعظونَ من دروس الماضي وعِبَرِه؟ ما الذي جنيتموه من الحرائقِ السابقةِ، سِوى الموتِ والهِجرةِ والتَّهجيرِ، والآهاتِ والدموعِ ، والدمار واتساعِ رُقعةِ مِساحاتِ المقابر، وتكاثُفِ الأحقادِ، في النفوس التي تَسْعَونَ إلى إزهاقِها ؟
-- بل إلى إحراقِ جهاتٍ مُعيَّنةٍ، ومعروفةٍ في هذا الغابِ، نسعى!
--خاب سَعْيُكُم.أفلاتعلمون أنّكم إنْ أشْعَلْتُمُ النارَ، ونَفَخَتْ في كورِها رياحٌ غريبةٌ قويّةٌ، فسوفَ لا تُبقي ولا تذرُ في الديارِ ديَّارا، لأنَّها لا تُمَيِّزُ بينَ جهةٍ وأخرى، ولا بين جاهلٍ وعاقل، أو بين مجرمٍ وبريء؟
-- الرياح الغريبة تساعدنا على إنجازِ المهمةِ، بِتَقَنِيَّةٍ عالية.
انتصب النمرُ. أطلقَ صرخةً مدويّة:
-- أيَّةُ أحقادٍ دفينةٍ هذه التي تُشْعِلُ دواخِلَكم؟ أيُّ شيطانٍ كبيرٍ ذلك الذي يُوَسْوِسُ لكم، ويَنْفُخُ في رُؤوسِكم ونفوسِكُم محفِّزًا على ارتكابِ هذه الجريمةِ النكراءِ بحقِّ أخوةٍ لكم، في هذا الغاب الذي ينعُمُ الآنَ بِعَيْشٍ مُشترك؟!
قالَ النَّمِرُذلك،وتوجّه إلى السِّنَّوْرِ الكبير:
--أنت،الآنَ،تظنُّ نَفْسَكَ نَمِرًا؛هاتِ أسْمِعْنا صَوْتَك لِنرى.
أصدرَ السَّنَّوْرُ خَرْخَرَةً مبحوحًة،
ضَحَكَ النَّمِرُ، وقال:
أَهٰكذا تُهَسْهِسُ النُّمورُ، وتُضَرْضِرُ يا هرّ؟
-- دَعْنا نُجرِّبْ، فالغابُ مِنْ دُونِ هذِهِ الجِهاتِ أفضل !
أطلقَ النَّمِرُ صَرخةً مُدَوِّيَة :
-- الوَيْلُ لَكُم؛ ألا تعلمونَ أنَّ الغابَ، إذا نقصَ مِنْها بُلْبُلٌ غِرِّيدٌ، فليستْ بغاب؟
هيا اخْلعوا هذِه الأثوابَ الْمُسْتَعارةَ حالًا، فما أنتم سوى قِطَطٍ صغيرةٍ مريضة، تسعى إلى إشعال نيرانٍ كبيرة، ومنْ يلعبْ بالنارِ تُحْرِقْ أصابِعَهُ أولًا.
أما آنَ لَكُمْ أنْ تَرْعَوُوا، وأنْ تتعلَّموا دروسًا في المواطنة، فالغابُ كبيرٌ، وفضاؤهُ رَحْبٌ وفسيح، وهو يحتضنَ الجميع.
هاتوا خرائطَ الخرابِ هذه،وارموا تلكَ المُفَرْقَعاتِ الَّتي تَتَأَبَّطُونَها بِزُهُوٍّ فارغٍ ،وانْصَرِفوا... لَعَنَكُمُ الله...لعنكم الله.
بيروت في 23/4/2025


