"هناك شق في كل شيء، ومن خلاله يتسلل النور"، هكذا غنّى الشاعر الكندي الشهير ليونارد كوهين، وبينما لم يكن يشير تحديدا إلى ظاهرة فلكية، إلا أن كلماته تنطبق تماما على السديم الغامض المعروف باسم سيركينوس ويست (Circinus West)، والذي يبدو في السماء كأنه شق عميق في نسيج الكون.
هذا الشق الكوني ليس فراغا مخيفا كما يبدو، بل هو مهد لولادة الضوء نفسه، إذ إنه سحابة كثيفة ومظلمة من المادة الجزيئية في الفضاء، تحتضن بين طيّاتها ولادة نجوم فتية جديدة.
- السدم المظلمة: ثقوب سوداء كاذبة في السماء
على عكس السدم العاكسة التي تلمع بضوء النجوم المجاورة، أو السدم الانبعاثية التي تُشع ضوءًا خاصًا بها، فإن السدم المظلمة مثل سيركينوس ويست تبدو كفراغات سوداء وسط السماء المتلألئة، لأنها لا تعكس الضوء ولا تُصدره، بل تمتصه وتنثره. لكنها في الحقيقة، تخفي في أعماقها بيئة مثالية لتشكل النجوم.
داخل هذه الكتلة الكثيفة من الغبار والغاز، تتكوّن النجوم حين تتجمع المواد وتنهار بفعل الجاذبية لتشكل نجما وليدا. هذه المرحلة الأولية من النشوء لا تُرى بسهولة، إذ تكون محاطة بسحب كثيفة تحجب الضوء، لكن باستخدام أدوات تصوير متقدمة، يمكن الكشف عن آثارها.
- صور مذهلة من كاميرا الطاقة المظلمة
نجحت كاميرا الطاقة المظلمة التابعة لوزارة الطاقة الأمريكية في التقاط صور عالية الدقة لسديم سيركينوس ويست، كاشفةً عن وجود عدد من النجوم الفتية المخبأة داخله، وعن ظواهر فلكية نادرة تُعرف باسم أجسام هيربيغ-هارو (Herbig-Haro).
هذه الأجسام النادرة تنشأ عندما تطرد النجوم حديثة التكوّن مادة بسرعة كبيرة على شكل نفاثات دقيقة ومركّزة، تنبعث من قطبي النجم، وتصطدم بالوسط المحيط، مولّدة فصّين متوهجين على جانبي النجم.
- النجوم الوليدة: فوضى ساحرة في بداياتها
النجوم الصغيرة في بدايتها تكون "فوضوية" في استهلاكها للكتلة المحيطة، إذ لا تستهلكها بالكامل، بل تُطلق بعضها في الفضاء عبر خطوط الحقل المغناطيسي، وعندما تصطدم هذه النفاثات بالمواد المحيطة، فإنها ترفع درجة حرارتها إلى حد تشكيل بلازما متوهجة، يمكن رؤيتها حتى من أعماق الظلمة.
كما تولّد هذه النجوم الشابة رياحا نجمية قوية تحفر تجاويف داخل السحابة، وتكشف أحيانًا عن ومضات ضوئية خافتة تُلمح إلى ولادة نجم جديد.
- شق من الظلمة ... يبشّر بالنور
يقع سديم سيركينوس ويست على بُعد نحو 2,500 سنة ضوئية من الأرض، ويبلغ عرضه نحو 180 سنة ضوئية، ويُعدّ من أبرز الأماكن التي تُولد فيها النجوم. ورغم الظلام الكثيف الذي يلفه، إلا أن الصور الحديثة تكشف عن عدد من أجسام هيربيغ-هارو داخل السديم، بالإضافة إلى علامات أخرى لنشاط نجمي داخلي.
مع مرور الوقت، تُطرد المواد المحيطة بالنجم عبر الرياح والنفاثات، فتتبدد الغيوم ويظهر النجم المتوهج، متألقا في سماء الكون.
- فهم أعمق لبدايات الكون
يظل هذا الطور المبكر من حياة النجوم غامضا جزئيا للعلماء، بسبب صعوبة رصده، لكن الصور الجديدة لسيركينوس ويست تفتح نافذة لفهم أفضل لكيفية تشكل النجوم، ودور هذه الأحداث العنيفة في تشكيل البنية الكبرى للكون.
إنها مفارقة مدهشة: من قلب الظلام الخانق، ينبثق النور الأكثر إشراقا.



