الكشف عن أسرار ازدهار الإنسان الحقيقي
دراسات و أبحاث
الكشف عن أسرار ازدهار الإنسان الحقيقي
6 أيار 2025 , 11:05 ص

لسنوات طويلة، شغلت فكرة "الحياة الجيدة" عقول الفلاسفة والعلماء ومفكري الثقافات المختلفة، وقد تنوعت التفسيرات بين المجتمعات، لكنها اتفقت جميعها على أن الحياة الجيدة لا تقتصر على الشعور بالسعادة فقط، بل تتعداه إلى تحقيق التكامل والاكتمال الإنساني.
في العقود الأخيرة، تحول التركيز نحو مفهوم "الازدهار"، الذي لا يُختزل في النجاح أو المتعة، بل يُعرف كحالة متعددة الأبعاد من الرفاهية، تشمل العواطف الإيجابية، والانخراط، والعلاقات، والمعنى، والإنجاز، وهو امتداد حديث لمفهوم "السعادة الحقيقية" الذي طرحه أرسطو.
الازدهار لا يتعلق بما نشعر به فحسب، بل يشمل جودة الحياة كاملةً: علاقاتنا، بيئتنا، وأسلوب حياتنا.
- دراسة الازدهار العالمي: مشروع غير مسبوق
نحن مجموعة من علماء النفس والاجتماع والوبائيات، نعمل ضمن مبادرة بحثية ضخمة تُدعى "دراسة الازدهار العالمي". تهدف هذه الدراسة إلى فهم أنماط ازدهار الإنسان عبر الثقافات المختلفة.
أجرينا دراسة سنوية لمدة خمس سنوات، شملت أكثر من 200,000 شخص من 22 دولة، باستخدام عينات تمثيلية وطنية لفهم مستويات الصحة والرفاهية.
بالتعاون مع مؤسسة غالوب، سألنا المشاركين عن حياتهم، صحتهم، طفولتهم، وضعهم المالي، ومستوى سعادتهم.
- الأبعاد الستة لحياة مزدهرة
ركزت الدراسة على ستة جوانب أساسية لحياة الإنسان:
1. السعادة والرضا عن الحياة: مدى شعور الناس بالرضا والإشباع.
2. الصحة الجسدية والنفسية: تقييم المشاركين لحالتهم الجسدية والعقلية.
3. المعنى والهدف: ما إذا كان لحياتهم اتجاه ومعنى واضح.
4. السلوك الأخلاقي والفضيلة: كيف يتصرف الناس بإيجابية رغم التحديات.
5. العلاقات الاجتماعية الوثيقة: نوعية الروابط العائلية والصداقات.
6. الاستقرار المالي والمادي: مدى شعورهم بالأمان في تلبية احتياجاتهم الأساسية.
استخدمنا مقياسًا من 0 إلى 10 لتقييم كل بُعد، ودمجنا أدوات من برنامج "الازدهار الإنساني" بجامعة هارفارد مع أسئلة إضافية تغطي جوانب مثل التفاؤل، السلام الداخلي، الثقة، الشعور بالوحدة، والدعم الاجتماعي.
- من هم الأشخاص المزدهرون ولماذا؟
أظهرت النتائج الأولية أن بعض الفئات والدول تتمتع بازدهار أكبر من غيرها:
الشباب، خلافا للتوقعات، لا يزدهرون بقدر كبار السن في كثير من البلدان، بسبب الضغوط النفسية والمالية وانعدام المعنى.
المتزوجون أظهروا مستويات أعلى من الدعم والعلاقات والمعنى.
العاملون شعروا بمزيد من الأمن والسعادة مقارنة بالعاطلين عن العمل.
الملتزمون دينيا الذين يحضرون خدمات دينية أسبوعية، أبلغوا عن ازدهار أكبر في معظم المجالات، بما في ذلك السعادة والمعنى والعلاقات.
يشير الباحثون إلى أن المجتمعات الدينية تقدم عناصر "الأربعة باء":
الانتماء (الدعم الاجتماعي)، الارتباط (الروحانية)، السلوك (تنمية الفضائل)، والإيمان (الأمل والمغفرة والقيم المشتركة).
لكن يُلاحظ أيضًا أن بعض المتدينين يعانون من الألم والمعاناة، وهو ما يُفسَّر بدور الدين في دعم الأفراد خلال الأوقات الصعبة.
- تأثير الطفولة والتجارب المبكرة
تشكل سنوات الطفولة حجر الأساس للرفاهية لاحقًا في الحياة. ومع ذلك، فإن الظروف القاسية لا تمنع الازدهار لاحقًا. ففي بلدان مثل الولايات المتحدة والأرجنتين، ساعدت الطفولة الصعبة البعض على اكتساب الصمود وإيجاد هدف أسمى في الحياة.
- الفروق بين الجنسين والدول
أظهر الرجال والنساء مستويات متقاربة من الازدهار عالميا، لكن بعض الدول أظهرت فروقا ملحوظة:
في اليابان، النساء أبلغن عن ازدهار أكبر.
في البرازيل، العكس هو الصحيح، حيث الرجال كانوا أكثر ازدهارا.
- الدول الأكثر ازدهارا ... والمفاجآت
بعض الدول تفوقت بشكل واضح:
إندونيسيا تصدرت المؤشرات في المعنى، الغاية، العلاقات والفضيلة.
المكسيك والفلبين أظهرتا نتائج قوية رغم الدخل المنخفض، وذلك بفضل الروابط الأسرية والدينية والمجتمعية.
أما الدول ذات الاقتصادات الأقوى مثل اليابان والسويد، فقد حصلت على درجات منخفضة في السعادة والعلاقات، ما يشير إلى أن المال ليس ضمانًا لازدهار الإنسان.
والأكثر إدهاشا: ارتفاع الدخل غالبًا ما يرتبط بانخفاض المعنى في الحياة، بينما البلدان ذات معدلات الولادة المرتفعة غالبا ما أبلغ سكانها عن وجود معنى أعمق لحياتهم.
- الرسالة الأهم من الدراسة
تُظهر هذه الدراسة أن الناس حول العالم يتطلعون إلى الأمور ذاتها: السعادة، الصحة، الأمان، والانتماء. لكن طرق تحقيق هذه القيم تختلف من ثقافة لأخرى ومن شخص لآخر.
رغم استخدام الدراسة لنفس الأسئلة في 22 بلدا، فإن المعاني المحلية والتجارب الفردية تُظهر أن مفهوم الازدهار ليس موحدا.
وتفتح هذه النتائج الباب أمام دراسات أعمق، تُراعي السياقات الثقافية واللغوية المختلفة، لفهم أعمق وأكثر دقة لما يجعل الإنسان يزدهر فعلا.

المصدر: sciencealert