تبدو القارة القطبية الجنوبية (أنتاركتيكا) من النظرة الأولى مجرد صحراء بيضاء جرداء تغطيها الثلوج والجليد، قاحلة وباردة ولا حياة فيها. لكن الواقع تحت هذا الغطاء الجليدي الضخم مختلف تماما، فقد كشف العلماء عن عالم مذهل ومخفي يتضمن أنظمة بيئية كاملة، أنهارا وبحيرات تحت الجليد، سلاسل جبلية ووديانا، ميكروبات بدائية، وحتى آثارا لغابات مطيرة قديمة.
- جليد يمتد عبر ملايين السنين
يغطي الجليد حوالي 90% من مساحة اليابسة في القارة القطبية الجنوبية، ويبلغ متوسط سمكه نحو 2.2 كيلومتر. يعود تشكل هذا الجليد إلى ما يقرب من 34 مليون سنة، لكن العلماء لم يكتشفوا سوى القليل مما يوجد تحته حتى الآن.
يقول يوهان كلاجِس، عالِم الرواسب في معهد ألفريد فيغنر بألمانيا: "من الرائع أن نغوص في عوالم الماضي لفهم كيفية تطور هذه القارة، وما الذي يخبرنا به ذلك عن وجودنا نحن على هذا الكوكب."
- آثار غابة مطيرة قديمة
في أحد أبحاثه، اكتشف كلاجِس أول أحفورة كهرمان تم العثور عليها في القارة، وهي بقايا لغابة مطيرة دافئة كانت تغطي القارة قبل أكثر من 90 مليون سنة، ويرى كلاجِس أن هناك المزيد من هذه الاكتشافات في انتظار الباحثين في المستقبل.
- بحيرات وأنهار تحت الجليد
تحت سطح الجليد، توجد أكثر من 400 بحيرة تحت جليدية، وأشهرها بحيرة فوستوك التي تقع تحت 4 كيلومترات من الجليد، قرب محطة فوستوك الروسية.
"ما الذي يوجد هناك؟ على الأغلب ميكروبات، ولكن أيضا حياة قد لا توجد في أي مكان آخر على الأرض بسبب الضغط الهائل تحت الجليد"، بحسب كلاجِس.
تقود عالمة الجليد كريستين داو من جامعة واترلو في كندا أبحاثًا استخدمت فيها تقنيات التصوير الراداري لرصد ما يكمن تحت السطح الجليدي، وتوضح داو أن نظاما معقدا من الأنهار ينقل المياه من وإلى تلك البحيرات.
وتضيف داو: "تخيل نهرا يتدفق إلى بحيرة ومنها إلى المحيط، ثم أضف طبقة جليد بسمك 4 كيلومترات فوقه. هذا الجليد يجعل الماء يتصرف بطريقة غريبة. فقد يتدفق الماء نحو الأعلى أحيانا، خلافا لقوانين الجاذبية."
- ليس كل ما تحت الجليد مدهشا
بالرغم من أن بعض ما تحت الجليد يثير الحماسة، إلا أن الكثير منه مجرد صخور عادية. يقول كلاجِس: "معظم ما تحت الجليد هو صخور نارية بلورية، مثل الغرانيت."
ومع ذلك، تشير داو إلى أهمية طبقات الرواسب المشبعة بالمياه تحت بعض أجزاء الجليد، حيث يتحرك الجليد فوقها بسرعة كبيرة نحو المحيط. "قد لا تبدو جميلة مثل الجبال والوديان، لكنها حاسمة لفهم سلوك الجليد."
- مستقبل هش ومخيف
تشير داو إلى أن الكثير من مناطق غرب القارة القطبية الجنوبية تقع تحت مستوى سطح البحر، لكن لا توجد محيطات هناك لأن الجليد يملأ الفراغ.
وتقول: "تخيل أن الجليد يجلس في وعاء، وهو الآن يملأه حتى الحافة. لكن حين يبدأ بالانكماش، سيتراجع إلى الداخل، وسيطفو بشكل أكبر لأنه أقل كثافة من الماء. عندها، يصبح الجليد كأنه مكعب ثلج ضخم يطفو فوق الماء."
وهذا ما يزيد من خطورة الموقف؛ فبمجرد امتلاء المساحات المنخفضة تحت مستوى سطح البحر بالمياه، سيصبح الجليد غير مستقر وقد يتفكك، مما يساهم بشكل كبير في ارتفاع مستوى البحر.
وتحذّر داو: "نحن نعيش تلك اللحظة الحرجة حاليا، إنها منطقة غير مستقرة، جميلة وواسعة وغامضة، لكنها أيضا خطيرة للغاية."
العالم المخفي تحت جليد القارة القطبية الجنوبية لا يزال يكشف لنا عن مفاجآت مذهلة، من آثار الغابات المطيرة القديمة إلى الأنظمة المائية المعقدة والميكروبات النادرة، كل ذلك يؤثر على فهمنا لكوكب الأرض وتغيراته المستقبلية. وفي وقت تتزايد فيه المخاوف من ذوبان الجليد وارتفاع مستوى البحار، تزداد أهمية هذه الاكتشافات في رسم صورة أكثر وضوحا لمستقبل البشرية.

