كتب الأستاذ حليم خاتون:
في أواخر حرب تموز ٢٠٠٦، وعلى إثر بروز إشارات بأن إيران سوف تساهم في إعادة إعمار لبنان، وبعد ظهور ما فعلته إيران بعيد حرب عناقيد الغضب سنة ٩٦، وبعد التحرير سنة ٢٠٠٠، خرج وزير الخارجية البريطاني يُحذًر من ترك الساحة اللبنانية لإيران.
طبعا، لم يكن المسؤول البريطاني يَقصُد أن يقوم، هو أو غيره من دول الغرب، بفعل أي شيء في هذا الخصوص, القصد، كل القصد، كان أن تصدر الأوامر الأطلسية إلى أكياس المال الخليجية، لتتفضل وتقطع الطريق على محور المقاومة من ربح السلم، بعدما استطاع ربح الحرب، وبأعلى درجات الإمتياز.
ما كادت أيامٌ تمرّ، حتى بدأت قطر، ثم تبعتها السعودية.. فالباقون...
ورغم أن ما فعلته إيران يفوق بسنين ضوئية ما فعله الأعراب، خرجت علينا شعارات من مثل "شكرا قطر"؛ وتبين فيما بعد أن المساهمة السعودية تحديداً، ذهبت إلى غير مستحقيها، إلا إذا اعتبرنا فؤاد السنيورة أحد منكوبي العدوان الصهيوني.
وهكذا بلع اللبنانيون الطعم، بل وبلع قسم غير قليل من جمهور ومسؤولي المقاومة، الطعم أيضاً. نسي اللبنانيون يومها النبع الأساسي، والمصدر الأساسي الذي حوّل لبنان من دويلة، قوتها في ضعفها، إلى البلد العربي الوحيد الذي هزم الجيش الذي لا يُقهر.
صار شعار المرحلة، """شكرا قطر""""... بدل أن يكون، ألف شكر لصواريخ إيران وسوريا.
مرت أكثر من خمسة عقود على إطلاق رصاصة الكفاح المسلح الفلسطينية الأولى.
كانت هذه الانطلاقة، أحد الردود المباشرة على هزيمة حزيران ٦٧.
ومع أن هذه الانطلاقة حظيت بدعم رُكْنَيْ المشرق العربي يومها: مصر وسوريا، ومن بعدها العراق والجزائر، إلا أنّ الاحتضان الشعبيّ فاق كل تصور.
كانت التبرعات المالية تتدفق على الفدائيين الفلسطينيين من كل حدب وصوب.
وسرعان ما وجدت الفصائل الفلسطينية نفسها سيدة الشوارع العربية، حيث ملكت قلوب الشعوب العربية.
يومها، كان التمويل شعبياً بامتياز، مع بعض الدعم من أنظمة وحدوية كانت تُشكًل ممانعة قومية للسيطرة الغربية على العالم العربي..
يومها، صعد نجم المقاومة الفلسطينية إلى أعلى مراتب الشرف التي تُوِّجَت بمعركة الكرامة في الأردن، حيث خرجت المقاومة بنصر عزيز شفى قلوب الأمّة.
وبغض النظر عن الفوضى التي سيطرت على هذه الفصائل، والطفولية اليسارية التى انتشرت فيها، فإنّ شيئا لا يمكن أن يبرِّر الخطيئة التي وقع فيها النظام الملكي الأردني الذي، وبدعم غربي خليجي واضح، شنّ حرب تصفية شاملة ودون هوادة، على هذه المقاومة. وارتكب خلالها من المجازر ما أثلج قلب عدوِّ الأمّة.
ورغم الضربة القاصمة في الأردن، تمكنت الفصائل الفلسطينية من إعادة تجميع قواها التي توزعت بين لبنان وسوريا مع كتيبة نظامية في مصر.
ولأنه يجب السيطرة على القرار الفلسطيني، ما لبثت الأموال الوسخة من الأنظمة العربية أن تدفقت؛ وكان أكثرها من أنظمة، ترتبط ارتباطاً عضوياً بالغرب عموماً وبأميركا وبريطانيا خصوصاً.
وشيئاً فشيئاً، بدأت الانشقاقات داخل الفصائل، وبدأ معها ظهور التنظيمات التابعة لهذا النظام أو ذاك...
وظهرت بندقية فلسطينية للإيجار، ومقاومة فلسطينية في فنادق بيروت الفخمة.
لم يكد يمضي عقد واحد على رصاصة الكفاح المسلح الأولى، حتى كانت
معظم الفصائل، تابعة بشكل ما إلى هذا النظام العربي أو ذاك... كل فصيل، حسب تمويله.
ومع هذه التبعية، بدأت القضية الفلسطينية تدخل في متاهات الفساد العربي العام.
ورغم وجود تيار يساري قوي داخل هذه الفصائل،إلا أنّ السيطرةالفعلية كانت لكبرى الفصائل التي كان يسيطر عليها تيار إخوانيٌّ لا يَقِلُّ رجعيةً عن معظم الأنظمة العربية.
وكان من الطبيعي، بسبب هذه البنية، أن لا تحظى المقاومة الفلسطينية بمساندة فعّالة من المحور السوفياتي أو الصيني.. وهكذا، كل ما ابتعد التمويل الفلسطيني عن الطبيعة الشعبية، وصار مرتبطا أكثر فأكثرمع هذه الأنظمة كلما ابتعد النضال الفلسطيني عن الكفاح المسلح، وصار تابعا لأجندات هذه الأنظمة.
وكانت الضربة القاضية مع الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة ٨٢.خرجت كل الفصائل تقريباً من لبنان، وماتت مع هذا الخروج أية إمكانية لبقاء أية استقلالية للقرار الفلسطيني.
كان من البؤس أن لا ترى القيادات الفلسطينية ذلك.
لقد مشت كل الفصائل إلى هذا المصير الأسود بأرجلها.
أما المأساة الحقيقية، فكانت عندما قبلت منظمة التحرير الفلسطينية، مع اتفاقية أوسلو، أن تصبح تحت الرحمة المالية الأميركية الإسرائيلية الخليجية بالكامل.
صارت السلطة الفلسطينية تنتظر جزءاً من أموال الضرائب الفلسطينية حتى تدفع ما عليها، ويأتي باقي التمويل من أميركا والأوروبيين الخاضعين لأميركا، والخليجيين التابعين لأميركا....
أما كيف يمكن لمقاومة أن تكون مقاومة بالفعل، وهي ممولة بالكامل من أعدائها، فهذه أُحجية لا يمكن أن تتواجد إلا في عالمنا العربي البائس.
اليوم، ترقص السلطة الفلسطينية فرحاً لمجيء بايدن، وما أدراك ما بايدن.
بالتأكيد بايدن سوف يعيد التمويل الذي قطعه ترامب عن السلطة.
هل كان ترامب على حق، حين اعتقد أن السلطة مُرّوَضَة إلى الحد الكافي، وأنه لا ضرورة لاستمرار شراء الولاءات.
إنّ فظاظة ترامب ناتجة بشكل أساسي عن إيمانه بالموت السريري للقضية الفلسطينية، بحيث أنه آن الأوان لفصل كل أنابيب إبقائها على قيد الحياة.
إن صفقة القرن ليست اختراعاً ترامبياً..صفقة القرن هي النتيجة الحتمية للطريق الذي سلكته منظمة التحرير الفلسطينية ومن بعدها السلطة الفلسطينية.
كلما ضَعُفَت المقاومة، يَسْوَدُّ مُستقبلُها، وكلما قَويَت يتحسن هذا المستقبل.
لا يمكن أن تقود مقاومة بائسة...ثم تتوقع الانتصار.
لا يمكن أن تتموّل من عدوك وتنتظر منه أن يعطيك حقوقك.
لذلك، وعلامَ يرقص فرحاً مَنْ في السلطة وفي المنظمة وفي الفصائل؛
نعم، ربّما يعيد بايدن بعض التمويل، ربما يُجبر أغنياء العرب على العودة إلى شراء السكوت الفلسطيني عن الحقوق، ربما يعيد فتح مكتب ارتباط لهذه السلطة.
لكن، ماذا يُمكن أن يعني كل هذا؟
حتى اليوم لا زال لبقايا الهنود الحمر بعض التمويل وبعض الامتيازات التي اشترى بها الرجل الأبيض سكوت هؤلاء على أكبرمجزرةبشرية وعلى أسوأهولوكوست في التاريخ البشري.
وما المانع من فعل الشيء نفسه مع الفلسطينيين؟
ماذا سوف يفعل محمود عباس؟
ماذا إذا جاءه أمر العودة إلى معسكر المخاصمة مع حماس؟
ماذا عن حماس سوف يُصدر بايدن الأوامر لقطر، بإعادة تكثيف تمويل شراء الضمير الفلسطيني.
أسلوب بايدن، أكثر ليونة من أسلوب ترامب؛ لكن المغزى واحد.
الهدف واحد. الفلسطينيون ليسوا بحاجة إلى تمويل يأتي من أعدائهم، أو حتى من أتباع أعدائهم المقنّعين.
لقد اختصرت السلطة والفصائل، كل على قدره، القضية الفلسطينية بما تفعل اليوم... لا شيءإذا استمرت الفصائل على هذا النهج، سوف تكون
النهاية، بالتأكيد، كما نهاية الهنود الحمر، فاختاروا!!!