في خطوة تحمل أبعادا استراتيجية عميقة، وصل وزيرا الخارجية و الدفاع في الحكومة السورية الانتقالية، أسعد الشيباني و مرهف أبو قصرة، إلى العاصمة الروسية موسكو، حيث التقيا نظيرهما الروسي سيرغي لافروف و أندريه بيلوسوف، هذا اللقاء رفيع المستوى يأتي في سياق مرحلة دقيقة تمر بها سوريا، وهي تعيد رسم ملامح نظامها السياسي، وتسعى لتثبيت موقعها الإقليمي وسط توازنات دولية معقدة.
تعاون متجدد … لكن على أي أسس؟
أعرب وزير الخارجية السوري، أسعد شيباني، خلال الزيارة، عن رغبة بلاده في إقامة علاقات "صحيحة وسليمة" مع موسكو، تقوم على التعاون والاحترام المتبادل، وأكد أن هناك "فرصًا كبيرة لسوريا قوية وموحدة"، مشددا على تطلع دمشق لأن تكون روسيا شريكا فاعلا في هذا المسار.
في المقابل، جاءت تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لتعكس اهتماما روسيا مستمرا بسوريا، مؤكدا أن موسكو "مستعدة لتقديم المساعدة الممكنة في إعادة الإعمار"، وأن تطبيع الأوضاع في سوريا لا يمكن أن يتم إلا "عبر الحوار وحماية حقوق جميع ممثلي الشعب السوري". كما أشاد بالخطوات التي اتخذتها دمشق لحماية البعثات والمنشآت الروسية في البلاد.
عدالة انتقالية ... أم ترتيب سياسي؟
اللافت في التصريحات السورية هو التركيز على العدالة الانتقالية، حيث شدد الشيباني على ضرورة وجود "تعاون روسي كامل وصادق" في هذا المسار، قد يبدو هذا الخطاب واعدا من حيث الشكل، لكن المضمون يطرح تساؤلات: هل تسعى دمشق إلى مسار حقيقي للعدالة والمحاسبة؟ أم أن هذا المصطلح يُستخدم كأداة تفاوضية لطمأنة موسكو والغرب دون نية فعلية لتغيير البنية الأمنية والسياسية القائمة؟
التوازن مع إسرائيل ... أمن أم تهدئة؟
أحد أبرز الملفات التي طُرحت في موسكو كان الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الأراضي السورية، والتي وصفها الشيباني بأنها "تغذي العنف وتُهدد الاستقرار"، ورغم تأكيده على أن "لا نية عدوانية تجاه إسرائيل"، فإن تصريحات لافروف كشفت عن دعم روسي لـ"اتفاقيات حفظ السلام بشأن الحدود السورية الإسرائيلية".
هذا الطرح يضع الحكومة الانتقالية أمام اختبار صعب: كيف يمكن الحفاظ على السيادة الوطنية، وفي الوقت نفسه تجنب الاصطدام مع تل أبيب التي لا تزال تمارس سياسات هجومية في العمق السوري، تحت أعين المجتمع الدولي؟
ملف الأقليات ... اختبار الدولة الجديدة
برزت أيضا قضية السويداء والدروز في المحادثات، حيث قال الشيباني: "حماية الدروز مسؤولية الدولة السورية"، مؤكدا رفض أي وجود مسلح خارج إطار الدولة، وتعهد بمحاسبة المتورطين في الانتهاكات الأخيرة، من جهته شدد لافروف على ضرورة "توفير فرص للأقليات للمشاركة في الحكم"، ما يضع الحكومة السورية الجديدة أمام تحدي إثبات قدرتها على حماية التنوع وضمان التمثيل العادل دون الوقوع في فخ المحاصصة أو الانتقام.
اتفاقات الماضي ... إعادة نظر أم إعادة تموضع؟
من أبرز مخرجات الزيارة هو إعلان الطرفين عن "إعادة النظر في كل الاتفاقيات السابقة مع سوريا"، وهو ما يعكس رغبة موسكو في تنظيم علاقتها مع النظام الانتقالي الجديد بعيدًا عن تركة الماضي المرتبطة بالنظام السابق. لكن إعادة التفاوض على الاتفاقيات تثير بدورها مخاوف من احتمالات استغلال هذا التغيير لترسيخ نفوذ روسي دائم، خصوصا في مجالات الطاقة، الأمن، والموانئ الاستراتيجية.
ختاما: شراكة أم تبعية؟
ما يجري بين موسكو ودمشق ليس مجرد تفاهم دبلوماسي، بل اختبار حقيقي لعلاقة ظلت لسنوات مبنية على الضرورة. اليوم، يبدو أن الحكومة السورية الانتقالية تحاول أن تخرج من عباءة التبعية وتبني شراكة أكثر توازنا، لكن نجاح ذلك مرهون بمدى قدرتها على تحقيق إصلاح داخلي حقيقي، يحترم التنوع، ويكف يد الفساد، ويفتح باب العدالة لكل السوريين دون استثناء.
الكرة الآن في ملعب دمشق، فإما أن تُحسن استثمار الانفتاح الروسي في بناء دولة وطنية جامعة، أو أن تسقط مجددا في فخ التحالفات التكتيكية التي تؤجل الانهيار... لكنها لا تمنعه.