مجروحة و مرمية تنزف هي الشام و فائض حزنها يلف العالم بوشاح السواد….
لم تكفها واهلها مصائب الدهر التي اصابت حياة الشاميين بكل تنوعهم ، و هي من كانت تداوي جراح محبيها و حضن من يقصدها .. و تقوم بما تعتبره واجبا اتجاه من بادها الحب و الفرح و الاحزان …لم تبخل يوما على من طلب عوناً من كل امة العرب و كان للبنان وشعبه بمحنته منذ الحرب الاهلية الافضلية و خاصة النخبة الفكرية والغنائية ، لم يتغنى احد حتى من السوريين كما تغنى سعيد عقل بصوت فيروز و الحان عاصي و منصور في الفن والمسرح الغنائي.
طقوس السوريين في فيروزيات الصباح كالصلوات الخمس ، حتى أنفسهم الرحابنة كانوا يعلمون ان السوريين الاوائل في عشق فنهم و اغاني فيروز التي تصدح مع كل شروق شمس و صباح على أثير موجات المحطات الإذاعية و كان ذلك فرض عين او مرسوم جمهوري …! و لن تكتمل جماهرية اي عمل جديد الا على مسرح معرض دمشق الدولي ، قبلة و جحيج لكل سورية نحو دمشق الشام في ايلول الفيروزي من كل عام.
«في دِمَشْقَ،
ينامُ الغريبُ
على ظلّه واقفاً
مثل مِئْذَنَةٍ في سرير الأَبد
لا يَحنُّ إلى بَلدٍ
أَو أَحَدْ...»
احد اعمدة لبنان الفنية وديع الصافي لاقى في سورية رعاية و اهتمام مع تكريم لم يحصل لاحد في القرن الماضي.
الكبير الكبير ملحم بركات و لا داعي للشرح هو بنفسه في كل مقابلاته يذكر فضل الشام و حبهما المتبادل و ما لم يقوم به لبنان كانت دمشق تعوضه ، و كان تكريمه على مسرح دار الاوبرا لحظة لا تنسى و عن حب وتقدير و ليس فضلا او منة عليه لانه سوري الهوا_لبناني الهوية و للسوريبن فيه كما للبنانيين و اكثر و لم يتنكر يوما لما لقاه من السوريين من حب.
لماذا هذا السرد و ما المناسبة و ما علاقة كل ماجاء و جرح الشام اليوم مع فائض الحزن.؟
إنها السياسة اليوم التي تؤثر على رغيف خبزنا إلى مزاجنا ، و غياب سورية الرسمية و السوريين عن مشهد وداع المتنوع نبوغاً الراحل زياد الرحباني ، الذي انبهر بعد جفاء طويل في الحضور ، تفاجئ بكمية عشق السوريين و تعلقهم به و المكانة التي يحظى بها في قلوبهم قبل و بعد حفلاته المتعددة و آخرها في قلعة دمشق و لم يصدق ان السوريين يحفظون عن كل اغانيه و اغاني مسرحياته عن ظهر قلب.
لذلك كان المشهد محزن كثير، ان يغادرنا و لم نستطع تقديم واجب العزاء او تكريمه او حتى جهة رسمية تبعث برسالة عزاء إلى والدته الشامخة في حزنها كما في وقفتها على المسرح ، حقاً انها من نسل البتراء و زنوبيا و صلبة كأحجار مدرج مسرح بصرى الشام الذي عرفها و عرفته بشكل دوري
كيف بهكذا شخصية مؤثرة ذات قيمة عند السوريين ان يرحل دون ان يودعه من عشقه او يلقون نظرتهم الاخيرة و القيام بالواجب، لا يليق بالشام كل الذي يجري و ان يكون ممنوع حتى خيمة عزاء ، و لكن لماذا العتب و دار الاوبرا في دمشق اليوم اصبحت مسجد للصلاة مع القادمين الجدد و طبعا كيف لمن قال انا مش كافر بس الجوع كافر او (ملحد) ان يكرم او يعزى به في افغانستان مثلا.
تغيرت الشام و لبست ثوب من الحزن و الكآبة و سال الكثير من دماء اهلها و لا مكان الفرح على ما يبدو إلى حين ف"بردى" سعيد عقل جفت دموعه من كثرة الموت البكاء و الشام تتساءل عن الآت المجهول و قاسيون فيروز لم يعد بمقدوره عناق السحب ، إنها حال دمشق العشق و الحضن الواسع لكل من احبها و قصدها…و أي حال هذه لعاصمة
التاريخ هذه..؟
«في دِمَشْق
تسيرُ السماءُ
على الطُرُقات القديمةِ
حافيةً، حافيةْ
فما حاجةُ الشُعَراءِ
إلى الوَحْيِ
والوَزْنِ
والقافِيَةْ؟»
إذا رحل العلامة الفارقة الإبداعية في تاريخ مشرقنا ، و هو من كان يجمع الكل و الكل مجمع عليه يوحد الخصوم و لو في الظاهر عبر فنه ، فجاة غادرنا و غدر بنا بعد هدوء نسبي و بصمت ، تيتمت فيروزنا… و سقطت آخر ورقة من ذهب ايلول الرحابنة إنه"زياد" المختلف عن الكل و بكل شيء و الذي سيبقى في الذاكرة و لن يقوى الزمن على الخروج منه.
تحية لروحك النبلية المرحة و سيرتك الذاتية التي لم تعرف الدجل ،المراوغة ، الخضوع و النفاق و صراحتك التي ازعجت الكثيرين و مواقفك الحرة و قناعاتك التي لم يستطيعوا ابدالها او شراءها ، هو من قال: "الثورة في سورية كذبة" و هو الثوري العتيق القارئ الرؤيوي و لم يكن كغيره من ( النخب ) التي انضمت إلى تيار النفاق و المصالح و المكاسب الشخصية يلحقون بالقوي في كل زمن و مرحلة ، مع رحيلك نعزي أنفسنا فيك و نفخر بكل ما قدمت لنا من دروس و اقوال باتت تاريخا و جزء من سلوكنا و أحاديثنا اليومية و تهكمك بسخرية.ذات مغزى و معنى من وعلى واقعنا الاجتماعي السياسي .
لذلك الحزن حزنين ، على حال الشام التي لم ترمقك بنظرة وداع و لفتة تكريم ، و حزن على فقد من احببناه منذ وعينا السياسي ، كل الاجلال و التعازي للأم الثكلى ، لك من الشام تاريخ و ذكرى و عشق لا نهاية له ، سامحينا أيتها العظيمة و "صبرا على البلوى " كما دمشق الجواهري في هذه الخسارة المؤلمة ، زياد عجز عن جواب حمله منذ وعيه السياسي و الاجتماعي "بالنسبة باكرا شو" رفض ان يبقى شاهد زور و على حالة عجز في واقع من التصحر الفكري و الوطني المقاوم ، فاستعجل في الغياب بعد يقينه ان لا أمل يجبره علي البقاء.