تركيا في مرآة الجغرافيا: من الحلم العثماني إلى فخّ التمدد
مقالات
تركيا في مرآة الجغرافيا: من الحلم العثماني إلى فخّ التمدد
وائل المولى
4 آب 2025 , 12:48 م

مع التحولات الكبرى في المنطقة، وعلى رأسها سقوط النظام السوري السابق وصعود قوى سياسية جديدة إلى الحكم، تتقدم تركيا كلاعب إقليمي رئيسي، يتمدد نفوذها عبر رقع جغرافية متباينة، تربطها طموحات أنقرة بحدود دم التاريخ، لا خرائط الواقع وحدها.

‏من الشمال السوري إلى جنوب القوقاز، ومن المتوسط إلى حدود الأردن والعراق، تتحرك أنقرة مدفوعة بمزيج من الطموح الإمبراطوري والمصالح الجيوسياسية.

‏غير أن هذا التمدد، مهما بدا فاعلا في لحظته، لا يخلو من مخاطر بنيوية. فالتوسع بلا أرضية استراتيجية ثابتة، واللعب على الحبال الإقليمية والدولية المتعارضة، غالبا ما ينتهي بما يشبه الفخّ الذي يُغلق على صاحبه في اللحظة التي يظن فيها أنه يمسك زمام الأمور.

‏سوريا الجديدة تحت العباءة التركية

‏سقوط النظام السوري السابق أفسح المجال لواقع ميداني غير مسبوق، حيث باتت هيئة تحرير الشام هي القوة الحاكمة في دمشق، وتمّ تنصيب أحمد الشرع رئيسا للمرحلة الانتقالية، ضمن توافق داخلي الطابع وخارجي الهدف، أشرفت عليه تركيا بصورة مباشرة.

‏لكن ما جرى لم يكن مجرد تغيير في الوجوه، بل تحوّل في العمق، إذ أصبحت أنقرة الطرف المُشرف على مفاصل الدولة السورية الجديدة:

‏الجيش السوري الجديد أُعيد تشكيله تحت إشراف مباشر من ضباط أتراك.

‏الاستخبارات المركزية السورية باتت تتبع التعليمات الأمنية التركية.

‏السياسات العامة، بما فيها الإعلام والتعليم والدين، تخضع إلى حد بعيد للنموذج التركي في الإدارة والسيطرة.

‏بهذا، تتحول الدولة السورية إلى حديقة خلفية لأنقرة، دون أن تحصّن هذه السيطرة بأي شرعية وطنية أو توافق داخلي مستقر.

‏مشروع متشعب: من الداخل السوري إلى الإقليم

‏التحرك التركي لا يتوقف عند حدود النفوذ، بل يُظهر ملامح مشروع تغييري عابر للدولة الواحدة، يحمل أبعادا ديموغرافية واقتصادية وجيوسياسية.

‏1. تغيير ديموغرافي مقصود في سوريا

‏توطين جماعات أجنبية من تركستانيين وقوقازيين وآسيويين في مناطق سورية متعددة بعد تهجير سكانها الأصليين، خصوصا من القوميات الكردية والأرمنية والطوائف الشيعية والمسيحية و العلوية والدرزية، لم يكن مجرد نتيجة حرب، بل توجّه طويل الأمد لإعادة رسم الخريطة السكانية بما يتوافق مع ما تسميه أنقرة "البيئة الآمنة".

‏هذا الطرح، وإن تم تبريره أمنيا، يفتقر لأي أساس قانوني دولي، ويعيد إلى الأذهان سياسات التهجير القسري التي دانها المجتمع الدولي مرارا.

‏2. الساحل السوري: بوابة الغاز والبحر

‏التحركات التركية في محيط اللاذقية وطرطوس تشير إلى مساعٍ لترسيخ وجود بحري دائم، وربط خطوط الغاز المحتملة بخريطة المصالح التركية في المتوسط، يجري خلف الكواليس إعداد قانوني وسياسي لرسم حدود بحرية جديدة تُـمكّن أنقرة من التحكم بالثروات البحرية السورية، في ظل مراجعة صامتة لاتفاقيات التنقيب القديمة مع روسيا واسرائيل . 

‏3. الجنوب السوري كمنصة ضغط إقليمي

‏الحراك على حدود الأردن، ووجود مجموعات تتنقل بين الجنوب السوري والداخل الأردني، يفتح الباب أمام سيناريوهات ضغط على عمان، وربما باتجاه الخليج ومصر، ضمن استراتيجية تركية لخلق أوراق تفاوض على طاولة غير مستقرة.

‏4. تفاهم غير معلن مع حزب العمال الكردستاني

‏بموجب تفاهم ، توصّلت تركيا إلى هدنة مع حزب العمال الكردستاني في تركيا من اجل تعديل الدستور وتحقيق ديمومة لحزب العدالة والتنمية وأردوغان ..

‏بالمقابل تعمل تركيا للتحرك ضد قوات سوريا الديمقراطية شرق الفرات، ما يُعيد صياغة المعادلة الكردية وفقا لمصالح أنقرة، ويمنحها اليد الطولى في الجغرافيا الكردية شمال شرقي سوريا.

‏غير أن هذا التفاهم، وإن خدم مصالح آنية، يُضعف لاحقاَ مصداقية أنقرة أمام جمهورها القومي الذي طالما اعتبر حزب العمال تهديدا وجوديا، ويكشف ازدواجية الخطاب التركي.

‏5. الدور التركي–الأذري ضد إيران وأرمينيا

‏بعد انتصار أذربيجان في ناغورني كاراباخ بدعم تركي، تحوّلت باكو إلى شريك استراتيجي لأنقرة في تطويق إيران شمالا. وهناك مؤشرات على تنسيق أمني وتكنولوجي متصاعد، لا يُخفي تأثيره على التوازنات الدقيقة في الحدود الإيرانية – الأرمنية الحساسة.

‏ العزلة الاستراتيجية: الفخّ الذي يقترب

‏رغم الدينامية التركية، هناك عوامل تشير إلى أن هذا المشروع يفتقر إلى العمق الاستراتيجي اللازم للاستمرار:

‏الهوية السياسية المتعددة الأقنعة: تركيا تُظهر خطابا دينيا في سوريا، علمانيا في الداخل، قوميا في أذربيجان، وحسابيا في أوروبا، ما يُفقدها الثقة لدى الشركاء المحتملين.

‏تحالفات هشة ومؤقتة: اللعب على التناقضات بين روسيا والناتو، وبين إيران والسعودية، يمنح أنقرة هامشا للحركة، لكنه لا يؤسس لتحالفات متينة أو دائمة.

‏التغيير السكاني كقنبلة موقوتة: التوطين والاستبعاد الطائفي والمناطقي يُنتج موجات مقاومة مؤجلة، قد تتفجّر لاحقا بوجه المشروع التركي نفسه.

‏الطموح الجغرافي يصطدم بجدران الواقع: تركيا تحاول إعادة رسم خريطة المتوسط والقوقاز والشام، لكنها تصطدم بقوى أكبر (اسرائيل .روسيا، إيران، أوروبا، الصين) لن تترك لها هذه المساحة دون ردّ حتمي.

‏سيناريو محتمل: التكلفة القريبة المدى

‏إذا استمرت أنقرة في هذا النهج دون مراجعة استراتيجية عميقة، فإنها قد تواجه في السنوات القليلة المقبلة ما يلي:

‏تفكك داخلي سياسي واجتماعي: تصاعد الصدام بين التيارات القومية والإسلامية والعلوية داخل تركيا، مع عودة التوترات الكردية.

‏عقوبات غربية وإقليمية: نتيجة ملفات الغاز والبحر، التهجير القسري، ودعم الجماعات المسلحة.

‏انهيار التفاهمات الكردية: مما يُعيد إشعال التمرد الكردي الداخلي، مدعوما من قوى خارجية.

‏مواجهة مفتوحة في سوريا: تبدأ بمقاومة شعبية في شرق الفرات و الساحل والجنوب، وتصل إلى صدامات أمنية واسعة النطاق.

‏خسارة مواقع النفوذ في باكو ودمشق في حال تغيّر الموازين الدولية أو تبدّلت التحالفات المفاجئة.

ختاما ما يجري في سوريا والمنطقة ليس فقط نتيجة ديناميات الحرب، بل جزء من مشروع تركي متعدد الأبعاد، يتجاوز التأثير السياسي إلى إعادة تشكيل الجغرافيا والبنية السكانية والموارد.

‏لكن التوسع بلا توافقات حقيقية، واللعب على كل التناقضات، غالبا ما ينتهي بالاصطدام بالحائط الصلب للواقع الدولي والإقليمي.

‏الرهانات الكبرى قد تنجح في لحظة، لكنها إن لم تُراجع بعقل استراتيجي متزن، قد تتحول من انتصارات ميدانية إلى كوارث جيوسياسية...

‏فالتاريخ لا يُنسى، والهويات لا تُمحى، وخرائط النار لا ترسم مستقبلا مستقرا.

‏وفي لعبة الأمم، ليس الخطر في أن تكون صغيرا، بل في أن تظن نفسك كبيرا بما يكفي لتغيّر قواعدها وحدك.