في كل مرحلة مفصلية من التاريخ الحديث، كانت سورية تتصدر قائمة الضحايا المستهدفين بمشاريع التقسيم وإعادة رسم الخرائط، لذلك الحرب على سورية ليس سوى صراعاَ عليها ، منذ الإستقلال تبلور هذا الصراع وزاد سعيره بعد الوحدة السورية - المصرية ، وكل ماحل على سورية لاحقاَ ليس حدثا معزولا عن هذه السردية، بل كانت امتدادا لسلسلة طويلة من التدخلات الخارجية التي رأت في وحدة سورية خطرا استراتيجيا يجب تفكيكه.
من سايكس بيكو مرورًا باقتراحات لورنس العرب ومراسيم غورو، وصولًا إلى ما يُعرف اليوم بـ"ممر داود"، تتكرّر أدوات التفكيك وتتبدّل الأسماء، لكن الهدف واحد: إخراج سورية من معادلة الجغرافيا العروبية المقاومة وتحويلها إلى فسيفساء هشة خاضعة.
سايكس بيكو 1916: التمهيد لولادة التجزئة
قبل أن تنتهي الحرب العالمية الأولى، رسمت القوى الاستعمارية خريطة ما بعد العثمانيين، بدم بارد، من دون أدنى اعتبار للهوية الوطنية أو التكوين الاجتماعي.
اتفاق سايكس بيكو كان أول طعنة حقيقية في خاصرة سورية الطبيعية، حيث قُسمت المنطقة إلى مناطق نفوذ بين بريطانيا وفرنسا وروسيا، ووضعت سورية تحت "المجهر الفرنسي"، عبر ما سُمّي بـ"المنطقة الزرقاء"، بينما خُصّ الجنوب السوري (من حوران حتى الجولان وفلسطين) بإدارة دولية تمهّد لتسليمه لاحقًا للإحتلال الإسرائيلي وولادته في عمق منطقتنا .
أما روسيا تم خداعها واخراجها من المعادلة آنذاك .
لقد مثّل سايكس بيكو خط الانفصال الأول بين الجغرافيا السورية والعراقية والفلسطينية واللبنانية، وافتتح عصر "الحدود المستحيلة" في المشرق.
اقتراح لورنس العرب 1918: طمس المشروع العربي
بعد نجاح الثورة العربية الكبرى ضد العثمانيين، برز "لورنس العرب" كلاعب مزدوج، إذ قدّم خريطة تقترح تقسيم المنطقة العربية إلى كيانات متعددة استنادًا إلى الولاءات القبلية والطائفية.
بالنسبة لسورية، عُرض تقسيمها إلى وحدات منفصلة: منطقة دمشق، وحلب، والبادية، والساحل، بما يتيح توزيع النفوذ بين البريطانيين والفرنسيين مجددا، هذه المرة من بوابة "الحماية" لا الاحتلال.
كانت هذه الخرائط دعوة مبطنة إلى تفكيك أي كيان قومي عربي ناشئ، وتقويض الوحدة السياسية بين المشرق والجزيرة.
مراسيم هنري غورو 1920: التقسيم باسم الطوائف
مع بدء الاحتلال الفرنسي لسورية، لم تتأخر سلطات الانتداب في تطبيق خطة تفتيتية ممنهجة. الجنرال "هنري غورو" أصدر سلسلة مراسيم قضت بتقسيم سوريا إلى خمس كيانات رئيسية:
دولة حلب
دولة دمشق
دولة العلويين
دولة جبل الدروز
سنجق الإسكندرون
متصرفية جبل لبنان (التي ضُمت لاحقا للبنان الكبير)
كانت هذه الكيانات تهدف إلى صناعة انتماءات بديلة عن الهوية السورية الجامعة، وخلق حواجز نفسية وطائفية تُمهد لحكم طويل الأمد. وقد ترافقت مع دعم واضح لقيادات محلية موالية، وتهميش للقوى الوطنية الجامعة.
ممر داود 2025: نسخة حديثة من الخرائط القديمة
في سياق التفكك السوري بعد 2011، طُرحت خرائط جديدة تحت مسميات معاصرة، أخطرها ما يُعرف بـ"ممر داود"، وهو مشروع جيوسياسي مفترض يعمل على:
شق ممر استراتيجي يبدأ من تل أبيب، يعبر الأردن ودرعا ودمشق، ويمر بدير الزور وصولا إلى أربيل.
اسرائيلي تقول أن الهدف هذا الممر عزل الساحل السوري والمقاومة اللبنانية عن العمق العراقي والإيراني.
لكن الحقيقة هي يفتت سوريا إلى كنتونات مذهبية وقومية، تحت شعارات "الحكم الذاتي" و"التمثيل المجتمعي".
هذا المشروع – وإن لم يُعلَن رسميا – إلا أن مؤشراته تتكرس على الأرض: تسليم مناطق نفوذ ، ترسيمات غير رسمية، قواعد أجنبية، تغذية الهويات الطائفية والعرقية بالدم والنار ، وتحييد دمشق عن أي قرار سيادي مستقل.
بين التاريخ والحاضر : ما الذي تغيّر؟
في العمق، لا شيء تغيّر سوى الأدوات:
في الأمس: احتلال مباشر، انتداب، مراسيم فرنسية وغربية .
اليوم: مسح الذاكرة وضرب الإنتماء ، وشعارات طائفية وفتنة وقتل وبالتالي الأدوات سورية والرعاية أميركية وتركية، وتسويات دولية تُدار على حساب السوريين والإسرائيلي سيد الموقف والقرار فيها .
لكن في كل مرة، يُثبت التاريخ السوري أن الخريطة التي لا يرسمها أبناء البلاد، ستبقى مؤقتة، ولو طال عمرها.
سورية ليست مجرد جغرافيا ... إنها وطن وتاريخ وحضارة
رغم كل ما مرّ على سورية من تقسيمات وخطط وأطماع، بقيت فكرة "سوريا الواحدة" حيّة في وجدان شعوبها.
هذه الفكرة، وإن كانت اليوم مطاردة، مهشّمة، مهددة من كل الجهات، إلا أنها الضمانة الوحيدة لأي مستقبل حرّ، عادل، وموحَّد.
إن المعركة لم تعد فقط على الأرض، بل في العقول. وكل من يقاوم مشاريع التقسيم، يحمل في قلبه خريطة أخرى
خريطة لأمة واحدة، لا تعرف الطوائف ولا الحدود المصطنعة .