كتب الدكتور علي حجازي:
ثقافة
كتب الدكتور علي حجازي: "عجوز بني رئام وعجائز أبناء اللئام".. "قصَّة قصيرة"
د. علي حجازي
23 آب 2025 , 22:22 م


العواصف تعوي في المكان الفسيح.

الشمس محتجبة خلف غيمٍ شحيح.

ألبوم ينعب وينوح

الثعالب تضبح والدجاج يصيح

أعوذ بالله من هذا الجو القبيح. أعوذ بالله من هذا الفأل القبيح.

خرجتُ لا أقصدُ مكانًا بعينه. المهمّ أنّني خرجتُ لأستريح.

هناك على تلَّة مشرفة عالية

كانت تتلفَّتُ فتلفّ الجهات الأربع. بدت مثل مروحة في حرٍّ قائض.

عيناها تندّان بدمع شفيف.

الوجه خطوط متشابكة.

-- يا لطيف ألطف. ما هذا المشهد المخيف؟

دنوت منها. لم تبالِ .كانت تحدّق إلى الأرض تارة، وتديم النظر إلى السماء.

خطوط الطول والعرض ضاعت معالمها في وجه مربدٍّ محتقن شبيه غيمة مشحونة بالقهر

--صباح الخير يا زبراء يا كاهنة العرب النجلاء.ما ذا ترين قولي؟

-- أيُّ خير يرتجى بعد يا حبيبي؟

تجمَّدتُ مكاني لا أنبس بكلمة.

تنهَّدتْ تنهيدةً طويلة زفرت ما تراكم في قلبها من وجع وقالت:

-- خطر خطر خطر. من الجنوب خطر ومن الشمال ومن الشرق والغرب خطر مثل زخّ المطر.

الصمتُ سيّدُ الموقف.

انتظرت بوحًا خانني اللحظة.

أعادت النظر. رفعت كفيّها إلى السماء وقالت:

-- رحماك ربّي لا تحقّق رؤيتي!

انفكت عقدة لساني فسألت :

-- ما الذي ترينه يا زبراء قولي؟ شغلتِ بالي!

-- متى كان بالك مرتاحًا يا حبيبي؟

-- استحلفك بالله العظيم أن تبوحي بسرِّ الرؤية. نفذ صبري !

-- آهٍ من قضاعة وبطونها، حذارِ من طيش بني ناعب وبني داهن وبني رئام، وحذارِ من لؤمِ خويلة عجوز بني رئام . هي التي نفخت في النار الضرام.

-- يا ويل قضاعة بلدنا من عجائز أبناء اللئام.

--العجوز العاقر رئام هي التي نفخت في كور الفتنة.ولمّا تراءى لي مشهد المجزرة الفظيعة قلت لها:

هيّا ننطلق إلى قومك أنذرهم.

-- هل انطلقت بك إليهم يا زبراء؟

-- بالطبع. توكَّأت عليَّ، ولمَّا وصلنا قام ربعها إجلالًا لي فقلتُ لهم محذِّرةً:

يا ثمرَ الأولاد، وأندادَ الأولاد، وشجا الحسَّاد.هذه زبراء تُخبركم عن أنباءِ قبل انحسار الظلماء بالمؤيَّد الشنعاء، فاسمعوا ما أقول.

-- وما تقولين يا زبراء؟

--- واللوحِ الخافق ،والليلِ الغاسق، والصباحِ الشارق،والنجمِ الطارق، والمزنِ الوادق:

إنَّ شجرَ الوادِ ليغدو ختلا، ويحرقُ أنيابًا عصلا، وإنّ صخرَ الطودِ لينذر ثكلا، لا تجدون عنه معلا

-- هل اتعظوا يا زبراء؟

-- لمَّا رأيتهم عن تحذيري مائلين، وعن الشرّ القادم غافلين كشفتُ لهم سوءَ المصيرِ المبين:

مهلًا يا بني الأعزَّة، والله إنِّي لأشمّ ذفر الرجال تحت الحديد.

-- غريب والله. لقد أريتِهِم ما تكون عليه جثثهم ملقاةً في العراء ، مضرّجة بالدماء، تنبعث منها روائح كريهة، ولم يعيروا تحذيرك اهتماما.

-- فتش عن خويلة العاقر الشمطاء، فهي وراء كلِّ بئر وغطاء.

-- بي شوق لمعرفة خاتمة القصّة.

-- إليك الخبر :

فلما طرق بنو داهن وبنو ناعب بني رئام عمدتْ العجوز إلى خناصرهم، وانتظمت منها قلادة، وألقتها في عنقها.

-- أعوذ بالله من شرّ العجائز أمثالها. وبعد؟

-- لحقتْ بمرضاوي بن سعود المهريّ، وهو ابن اختها، فأناخت بفنائه، واستعدَتْهُ على بني داهن وبني ناعب، فخرج منسر من قومه ، فطرقهم فأوجع فيهم

-- وزادت الخناصر المقطوعة المعقودة في القلائد، وزكمت الروائح الأنوف. أليس كذلك؟

-- هذا ما أبصره من على هذه التّلّة، مع الأسف الشديد.

-- قطّبتُ جبيني، وتجمّد الدمع على أهدابي، وقلت :أعوذ بربِّ الفلق مما ترين يا زبراء.

دنت منّي ، تلمَّست حرارة الدمع وأردفت:

-- أعوذ بربِّ الناس من شرِّ الوسواس الخنّاس. أيّ حطب اشتعل في آتون عينيك وصدرك وشفتيك حتى تسبَّب بهذا الغليان؟

-- أخافني كثرة العجائز الرئاميَّة اللبنانيّة الذين ينفخون في كور الفتنة صبحَ مساء، وأرعبتني مسألة تعطيل العقول، وقرع الطبول، فهؤلاء إلى بئس المصير بأرجلهم يسيرون مع علمهم بحجم هذا الشرِّ المستطير.

-- أعلم، أعلم. إنّهم جمعوا الحطب، وأشعلوا في الناس الخطب، فغلت النفوس، وترأّس الناس التيوس، وراحت العجائز تعدّ القلائد للخناصر. إنّها

واقعة لتجدنَّ الكلّ فيها خاسر.

-- أللهم رأفةً منك بنا، وماذا بعد؛

--إذا اشتعل الحطب ستلتهم ألسنة النيران المكان، وتطول الأهل والجيران ، وتلفّ كلّ السكان. وستأتي على أخضر الغابة ويابسها، وستُطلي الجدران بالسخام، ولن ينجو منها حجر ولا شجر ولا إنسان!

-- لاااا لاااا فأل الله ولا فألك. صرخت بأعلى صوتي :

-- أيُّها الناس، لا تركنوا إلى الوسواس الخنَّاس، فتمسّكم النار، ويحرقكم لهيبها.

كسّروا الأبواق ، ولا تنفخوا في كور الفتنة ، واتقوا الله في البلاد والعباد.

أعدت النداء، ثمَّ رفعت كفَّيَّ إلى السماء، ودعوت :

--يا ربّي، أيُّها "الملك القدّوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبَّار المتكبّر". أرجوك بخير أسمائك كلّها أن تحفظ هذه البلاد، وترأف بهؤلاء العباد الذين يهيمون في كلّ واد، ويأكلون من كلّ زاد، وأنّ تقيهم شرّ الشيطان الكبير، من كلِّ شر مستطير، وأن تعمّ في أرضنا المحبَّة والوئام ، وتثبّط أفعال اللئام؛ وأن تنعم على الكرام بكلّ خير عميم ، وأمنٍ مستديم. إنَّك على كلّ شيء قدير.

آمين يارب العالمين .

قفلت عائدًا مسكونًا بهمٍ وغمٍ ووجع ثقيل، وبينما كنت أجرجر قدميّ انبلج فجر الأمل حين سمعت المقريء يتلو كلام العليّ القدير : فإنَّ مع العسر يسرا. إنَّ مع العسر يسرا.

انفرجت أساريري، ورحت أهمس:

-- سبحانك ربّي تؤكّد اليسر مرّتين، وهذا ما يُطمئِنُ قلبي: ألا بذكر الله تطمئن القلوب .

صدق العليّ العظيم.

قبريخا في 22/8/2025

المصدر: موقع إضاءات الإخباري