عدنان علامه - عضو الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين
لم تعد الإضاءات على المعالم الشهيرة مجرد مبادرات رمزية أو بروتوكولية، بل تحولت إلى أدوات سياسية مكشوفة، تُستعمل لتلميع تحالفات آنية وتغطية تناقضات دامية.
فالضوء الذي كان رمزًا للفرح أو التضامن، صار وسيلةً لتزوير الذاكرة الجماعية، وللتلاعب بمشاعر الشعوب، ولإرسال رسائل سياسية مبطنة من فوق رؤوس الناس.
ففي تركيا، حين أمر أردوغان بإضاءة برج تشاملجا، بدا كمن يتحدى ذاكرة وطنية حساسة؛ إذ إن اليمن ارتبط في العقل الباطني التركي، وفي الذاكرة المتوارثة بجروح الغزو العثماني لليمن، وسقوط عشرات الآلاف من الجنود. هذه الصفحة التاريخية السوداء لا تزال تُروى في البيوت والكتب والأغاني الشعبية بوصفها رمزًا للموت المجاني. ومع ذلك، جرى القفز عليها تحت عنوان "الأخوة اليمنية – التركية" في خطاب دبلوماسي خادع، ألقته السفارة اليمنية في أنقرة لتغطية حقيقة أن السياسة تكتب على حساب الذاكرة والدماء.
ولم يكن المشهد في الإمارات أقل وضوحًا. قبل عامين أضيء برج خليفة في دبي احتفاءً بالعلاقة بين الإمارات وحزب الإصلاح في جنوب اليمن. هنا أيضًا، تحوّل الضوء إلى إعلان سياسي ضخم في سماء مدينة، حيث لا مكان للصدفة ولا للبراءة.
فالمبنى الذي يُعد أعلى برج في العالم تحوّل إلى شاشة دعاية للتحالفات الإقليمية، وكأن وجدان الناس مجرد خلفية تزين الصورة.
أما في لبنان، فجاء منع إضاءة صخرة الروشة ليكشف هشاشة السلطة المحلية.
فالقرار لم يكن بريئًا، ولم يكن بدافع "الحياد" أو "الحفاظ على صورة لبنان"، بل عكس خضوعًا سافرًا لإملاءات خارجية.
فالدولة لم تحترم مشاعر الملايين منكل الطوائف الذين شيّعوا سماحة السيدين الشهيدين حسن نصر الله وهاشم صفي الدين، ولم تُفكر في رمزية هذه المناسبة التي تعني معظم اللبنانيين ، ولا سيما لجمهور المقاومة الكثير الكثير.
بل على العكس، بدا المنع، وكأنه كمين سياسي مدبّر، هدفه جر حزب الله إلى ردة فعل عنيفة تهدد الاستقرار الداخلي.
غير أن الحزب، ببرودة أعصابه، فوت الفرصة على رئيس الحكومة، مفضّلًا التماسك على الانجرار للفوضى.
هذه المفارقة تضعنا أمام سؤال أعمق: أين هيبة الدولة؟ وهل يُختزل دورها اليوم في ضبط ألوان أضواء المعالم، بينما يُثبِّت الاحتلال الإسرائيلي وجوده داخل الأراضي اللبنانية ويكثِّفه على الحدود وفي السماء والبحر دون أي رادع؟
والأرقام وحدها تكفي لفضح العجز: فأكثر من 4500 اعتداء إسرائيلي منذ وقف إطلاق النار الأخير في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر ، من دون أن تحرك الحكومة ساكنًا، ومن دون تقديم أي شكوى إلى مجلس الأمن.
فهذا الصمت الرسمي لا يمكن تفسيره إلا بواحد من أمرين: إما الخضوع المطلق للضغوط الخارجية، أو التواطؤ الصامت مع من يريد نزع سلاح المقاومة وتجريد لبنان من عناصر قوته.
والأخطر أن هذا الأداء لا ينسجم مع البيان الوزاري الذي تعهدت به الحكومة عند نيلها الثقة. فهي التزمت "حماية لبنان أرضًا وشعبًا وسيادةً"، لكنها خرقت التزامها الصريح، وأدارت ظهرها لما يجري من انتهاكات، بل وتجاوزت حتى المشاعر الشعبية في قضايا رمزية بسيطة كإضاءة صخرة الروشة. فكيف لشعب أن يثق بدولة لا تحترم شهداءئه ولا دموعه، ولا تتحرك في وجه آلاف الاعتداءات اليومية على أرضه؟
فالسياسة ليست فقط حسابات باردة أو بيانات رسمية، بل هي أيضًا احترام لمشاعر الشعوب وصونٌ لكرامتها.
فعندما يُسقط القرار الرسمي هذا البعد الإنساني، يصبح أداة استفزاز بدل أن يكون وسيلة حماية. وهذا ما حصل في بيروت:
فالدولة لم تكتفِ بالتغاضي عن الاحتلال، بل ذهبت لتستفز مكونًا واسعًا من مكونات لبنان في لحظة حداد جماعي، وكأنها تبحث عن تفجير أزمة جديدة.
فكل ذلك يؤكد أن هذه الحكومة لم تعد مؤهلة للبقاء. فهي فشلت في الدفاع عن سيادة لبنان، وفي الدفاع عن شعبه وأرضه أمام الإحتلال الصهيوني، وفشلت في احترام مواطنيه ومشاعرهم، وفشلت في الالتزام ببيانها الوزاري. وأيضًا إلتزَمت صمت القبور تجاه مزاعم أدرعي ونتنياهو بوجود تفهم مَع لبنان ضمن إتفاق وقف إطلاق النار بالقضاء على كل ما تراه تهديدًا لأمنها.
وبلغت لسانها عندما صرح برًاك بأن الحكومة طالبت تدخل المارينز لسحب سلاح حزب الله، ولن يتم تسليح الجيش إلا بما يكفي لسحب السلاح من حزب الله.
فالإستقالة هنا لم تعد خيارًا سياسيًا فحسب، بل ضرورة أخلاقية أمام شعب فقد ثقته بدولة تخلت عن أبسط واجباتها بحمايته.
وقد تحولت رمزية الضوء إلى لعبة سياسية في تركيا والإمارات ولبنان تكشف حقيقة مرة: أن الشعوب تُعامل وكأنها مجرد ديكور، بينما القرارات الكبرى تُصاغ في العواصم وتُفرض على الحكومات المحلية.
فبين برج تشاملجا وبرج خليفة وصخرة الروشة، يتضح أن المعالم الوطنية لم تعد ملكًا لشعوبها، بل تحولت إلى أدوات في صراع النفوذ، فيما تبقى الكلمة الأخيرة للشعوب، التي لم تفقد بعد قدرتها على كشف ولا المؤامرات التي تُحاك ضدها.
وإنَّ غدًا لناظره قريب
28 أيلول/ سبتمبر 2025