البشير عبيد - تونس
كأنها صفحة من رواية محكمة السبك أو مشهد أخير من فيلم حربي لا يُنسى. في قلب خان يونس، التي لم تبرأ بعد من لهيب القصف وهشيم الركام، انطلقت ملحمة سرّية حاكها رجال الأنفاق بخيوط الصمت والدهاء. مشهد الجنود وهم يلفّون معداتهم في كفن أبيض بدا للعدو جنازةً عابرة، لكنه لم يكن يعلم أن الموت حين يحمله الأحياء يصبح أدهى من كل أجهزة الرصد والتجسس. لقد صنع المقاومون من بقايا الموت سلاحًا جديدًا، ومن ركام البيوت مصيدة محكمة، ثم تركوا المكان بهدوء، وكأنهم يؤدّون طقسًا مقدسًا في حضرة الغياب. لم تمضِ سوى سويعات، حتى امتلأت البقعة بأدمغة العدو: ضباط استخبارات، ورؤوس تكنولوجية، وقادة ميدانيين. وعندما اجتمعوا على مائدة الحرب، جاء الرد من حيث لا يحتسبون. انفجار موجّه بعين يقظة من تحت الأرض، حوّل المشهد إلى كابوس. لم تكن العملية مجرد استهداف، بل إعلانًا مدوّيًا أن غزة لا ترد فقط، بل تخترق، وتبدع، وتسبق الخصم بخطوات من وعي ونار.
الذكاء المقاوم في مواجهة التكنولوجيا العمياء
لم تكن هذه العملية مجرد رد على جريمة أو صرخة في وجه المجازر المتواصلة. لقد حملت بُعدًا مركبًا تجاوز منطق "الفعل ورد الفعل"، لتدخل في عمق ما يمكن تسميته بعقيدة الرد الذكي. المقاومة لم تطلق النار عشوائيًا، ولم تنفّذ هجومًا انفعاليًا، بل قدّمت للعالم نموذجًا جديدًا في إدارة المعركة: نموذجًا يبني على الرصد طويل الأمد، ويستثمر ما يظنه العدو نفايات، ويستغل الفجوات الصغيرة في أعتى المنظومات التكنولوجية.
إن العملية تُعدّ انتصارًا استخباراتيًا قبل أن تكون ضربة عسكرية. فقد أثبتت أن المقاومة قادرة على معرفة ما يدور داخل عقل العدو، ومعرفة من سيجتمع، وأين، ومتى، ولماذا. تلك تفاصيل لا يمكن الوصول إليها إلا بعمل استخباراتي داخلي، أو بقدرة فائقة على مراقبة سلوك الاحتلال ورصد تحركاته وبناء نماذج استنتاجية دقيقة. ومجرد زرع تلك المتفجرات المعقدة – المصنعة من بقايا ما ألقته الطائرات ولم ينفجر – يُشير إلى وجود عقل عسكري منظّم لا يقل دقة عن أقسام "الأبحاث والتطوير" في جيوش العالم الكبرى.
فشل الطائرات المسيّرة، وتغافل الأقمار الصناعية، و"انخداع" الرادارات بالتمويه البصري (كفن أبيض في جنازة)، كلّها تدل على نقطة خطيرة: المقاومة تفهم عقل العدو جيدًا، بل وتحسن تضليله. لقد أُغلقت دائرة الإدراك حول الموقع المستهدف وأُحكمت المصيدة، وفي اللحظة المناسبة، أُغلق الباب على ضباط الاحتلال كأن الأرض قد انقضّت عليهم.
ضربة في عمق القيادة: الرسائل والدلالات
لم تستهدف العملية دورية عابرة، ولا نقطة مراقبة على تخوم المواجهة. ما جرى في خان يونس كان أشبه بانهيار غرفة عمليات مركزية داخل منظومة القيادة والسيطرة. الضربة جاءت في المكان الذي تُرسم فيه خرائط الحرب وتُجمع فيه المعلومات وتُتخذ فيه القرارات. نحن أمام ضربة قلبت رأس المنظومة وليس ذيلها، واستهدفت الأعصاب لا الأطراف.
ذلك يفسّر حجم الصدمة داخل المؤسستين الأمنية والعسكرية في الكيان. فتلك النخبة التي دُفنت تحت الأنقاض، كانت تتكوّن على الأغلب من ضباط استخبارات عسكرية، خبراء في أنظمة التتبع، مختصين في الحرب الإلكترونية، وقادة ميدانيين ينسّقون تنفيذ المهام. إصابة هذه النواة يعني أن المقاومة قد عطّلت، ولو جزئيًا، قدرة الاحتلال على اتخاذ القرار وتنفيذه على الأرض في جبهة الجنوب.
ثم إن لهذه العملية أبعادًا رمزية لا تقل أهمية عن بعدها العملياتي. فقد أثبتت أن الاحتلال، رغم تفوقه التقني والاستخباراتي، يمكن اختراقه والتغلب عليه. كما أنها تُعيد التوازن النفسي داخل الوعي الجمعي الفلسطيني والعربي، وتؤكد أن العدو ليس أسطورة لا تُقهر، بل كيان يرتكب الأخطاء ويقع في الفخ إذا أحسنّا إعداد المسرح.
إن ما جرى يرسل رسالة واضحة: قطاع غزة لا يُدار فقط بروح التحدي، بل بعقلية إستراتيجية ذات بُعد طويل. والضربة الأخيرة تقول بوضوح إن "المعلومة" أصبحت لدى المقاومة أهم من السلاح، وإن الاستخبارات الدقيقة، إن وُضعت في أيدٍ نظيفة وعقول هادئة، يمكن أن تُحدث اختراقات هائلة في جسد منظومة معقدة كمنظومة الاحتلال.
من تحت الأنقاض... تُعاد صياغة المعادلة
الأنفاق ليست فقط أنابيب ترابية تختبئ فيها البنادق، بل معامل تُصنع فيها الفكرة قبل القنبلة، والرؤية قبل الرصاصة. هناك، تحت الأرض، تصاغ خطط الحرب كما تُصاغ قصائد الشعر؛ حيث الصمت لغة التخطيط، والظلمة معبر البصيرة، وكل خطوة تُحسب بعين الحكمة لا بعين الرغبة. ورجال الأنفاق ليسوا مجرد مقاتلين، بل أشبه بكيميائيين في معمل مقاوم، يُعيدون تركيب ما يظنه العالم "نهاية" إلى نقطة انطلاق جديدة.
لقد استطاعت المقاومة أن تنتج تكنولوجيا ميدانية خاصة بها، لا تُشبه ما يملكه العدو، لكنها تهزمه بفعالية أكبر. فهي لا تحتاج إلى حواسيب متطورة، بل إلى عقل يحسن إعادة تدوير أدوات الموت. لا تحتاج إلى أقمار صناعية، بل إلى عين يقظة تُراقب الأرض وتفهمها. لا تبحث عن سرعة الهجوم فقط، بل عن معنى الهجوم، وأثره، وتوقيته النفسي والسياسي.
هذا النمط من التفكير هو ما يزعج العدو ويقلقه أكثر من السلاح ذاته. لأنه يدرك أن أعداءه لا يتحركون فقط بغريزة البقاء، بل بعقلية من يريد إرباك منظومته والتسلل إلى عمقها. وهذا تمامًا ما حدث في خان يونس: لقد رأى العدو "الكفن"، ولم ير "الكمين"، رأى الجنازة ولم ير الفخّ، رأى ما يريد أن يراه، بينما كانت الحقيقة تُحاك بخيوط لم تُسجّلها الأقمار ولم تسمعها الآذان.
إننا أمام مشهد يُعيد تعريف المعادلة: ليس من يملك أكبر عدد من الطائرات هو المنتصر، بل من يملك الحيلة والدهاء والإبداع في تحويل الأرض إلى مسرح موت للعدو. العملية الأخيرة هي جواب حاد على كل من ظنّ أن غزة تنزف بصمت أو أنها تُستهلك تحت الحصار. بل العكس تمامًا: إن ما يُعدّ عجزًا في عين العالم، هو وقود إبداع في يد أبناء الأرض.
حين ينهار مركز قيادة بكامله في لحظة خاطفة، ليس بسبب قنبلة ذكية، بل بسبب عقل يقظ، وخطة صامتة، ونية صادقة، فهذا يعني أن زمنًا جديدًا بدأ يتشكّل في معادلة الردع. غزة اليوم لا ترفع صوتها فقط، بل تُعيد ترتيب الفوضى على طريقتها. العملية الأخيرة ليست فقط نصرًا ميدانيًا، بل شهادة على أن في هذا الركن من العالم رجالًا لا ينامون على الضيم، ويحوّلون الأنقاض إلى مفاجآت، والحداد إلى خطط. نعم، من تراب الأنفاق تُصنع الأساطير، ومن حطام البيوت تُبعث المعادلات من جديد.