البشير عبيد - تونس
مرّت سنتان منذ اندلاع طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023، لحظة فارقة أعادت رسم حدود الصراع الفلسطيني–الصهيوني وأظهرت هشاشة الأسطورة التي روج لها الكيان الصهيوني الغاصب لعقود طويلة. لم يكن الطوفان مجرد مواجهة عسكرية عابرة، بل انتفاضة استراتيجية شاملة أعادت تعريف القدرة على المبادرة والمقاومة، وحوّلت مسار الصراع من مرحلة الدفاع المشتت إلى مرحلة مبادرة حقيقية.
تجربة الطوفان لم تنشأ في فراغ، بل هي استمرار لمسار طويل من الصراع الممتد منذ وعد بلفور، مرورًا بالنكبة والنكسة، وصولًا إلى الحصار والإرهاب الممنهج الذي يمارسه الكيان الغاصب. المسجد الأقصى لم يكن مجرد هدف عابر، بل رمز مركزي للهوية الفلسطينية، ولحظة تاريخية تجمع بين الدين والسياسة والمقاومة الشعبية. هذا الرمز أعطى الطوفان بعدًا معنويًا استثنائيًا، حيث تحولت المعاناة اليومية إلى قوة استثنائية في الصمود وإعادة رسم المعادلات الاستراتيجية.
كان الطوفان أيضًا اختبارًا لقدرة الشعب الفلسطيني على الصمود المنهجي، ومدى استعداد المحافل الشعبية والفصائلية لفرض إرادة التغيير. لقد أبرزت الأحداث أن فلسطين ليست مجرد أرض محتلة، بل حاضنة وعي تاريخي مستمر قادر على الصمود، والتحرك، وإعادة صياغة القواعد في مواجهة الكيان الصهيوني الغاصب. في الذكرى الثانية للطوفان، تتجلى الدروس العميقة حول صمود المجتمع الفلسطيني، وقدرته على تحويل الألم إلى قوة استراتيجية، وهو ما يفرض على الاحتلال مراجعة حساباته مجددًا أمام معادلة جديدة للمقاومة.
البُعد الإنساني والمعاناة الواقعية
لم يكن طوفان الأقصى مجرد صراع عسكري، بل مرحلة معاناة يومية مكثفة على مستوى الفرد والمجتمع، خاصة في غزة والضفة الغربية. القصف المستمر، والحصار الخانق، وتدمير البنية التحتية، كل ذلك جعل الحياة اليومية اختبارًا للصمود والكرامة. المستشفيات عملت تحت ضغط هائل، والمدارس والملاجئ تحولت إلى مراكز لإيواء المدنيين وإدارة الطوارئ. في الوقت نفسه، كان الإعلام المقاوم ينقل حقيقة الصمود الفلسطيني ويكشف الأكاذيب الصهيونية الغاصبة، مما جعل العالم يشاهد حجم المعاناة الحقيقية والتضحيات اليومية.
المعاناة لم تُضعف الفلسطينيين، بل صقلتهم وحوّلت الألم إلى قوة معنوية ووحدة جماعية. المواطن الفلسطيني تعلم أن الصمود اليومي هو سلاح استراتيجي يعزز قدرة المقاومة على التكيف ومواجهة الاحتلال. البنية الاجتماعية الفلسطينية، بما فيها الأحياء الشعبية والمنظمات المدنية، لعبت دورًا حيويًا في توفير الدعم اللوجستي والتوجيهي، وضمان استمرار حياة الناس رغم الحصار.
الحاضنة الشعبية، داخل فلسطين وفي الشتات، دعمت المقاومة بكل الوسائل المتاحة: التبرعات، الدعم اللوجستي، الإعلام البديل، والمناصرة الدولية. هذا الدعم الشعبي أثبت أن المقاومة ليست مجرد عمليات عسكرية، بل مشروع وعي شامل يعتمد على صمود الشعب وتحويل الألم إلى استراتيجية طويلة المدى. المعاناة اليومية أصبحت قوة لا تقل أهمية عن العمليات العسكرية، إذ أظهرت قدرة الشعب الفلسطيني على التكيف والصمود والاحتفاظ بالأمل رغم الظروف القاسية.
الموازين العسكرية والسياسية للمقاومة
العامان الماضيان كشفا عن مرونة واستراتيجية محور المقاومة في إدارة الصراع. لحظة الطوفان لم تكن مفاجأة عسكرية فحسب، بل تصعيدًا استراتيجيًا متكاملًا: تكتيك ميداني، دعم لوجستي، تخطيط طويل الأمد، ووعي جماعي بالتحولات الميدانية والسياسية.
الفصائل الفلسطينية أظهرت قدرة استثنائية على المناورة بين الهجوم المباشر وعمليات الاستنزاف، ما أجبر الكيان الصهيوني الغاصب على إعادة تقييم قدراته وخططه، وإدراك أن سيطرته على الأرض ليست مطلقة كما روج لها. العمليات كانت متزامنة مع حملات إعلامية ودبلوماسية استهدفت كشف الطبيعة العدوانية للاحتلال وفضح الأكاذيب الصهيونية أمام العالم، مؤكدًة أن الحق الفلسطيني في المقاومة مشروع وشرعي.
النجاحات العسكرية، رغم تكبدها خسائر بشرية ومادية، أعادت تشكيل الرؤية السياسية للكيان الصهيوني الغاصب، وجعلت محور المقاومة قادرًا على فرض معادلات جديدة على الأرض. القوة لم تعد مرتبطة بالعدد أو التكنولوجيا فحسب، بل بالوعي الاستراتيجي، المرونة، القدرة على المبادرة، وحسن استغلال أخطاء العدو. التكامل بين الميدان والسياسة والإعلام والوعي الشعبي منح المقاومة أبعادًا غير تقليدية للقوة، مؤكداً أن الصراع يمتد إلى المعركة الإعلامية والدبلوماسية والوعي الشعبي، وليس محصورًا في الأرض فقط.
الدور الإقليمي والدبلوماسي
الدور الإقليمي كان محورياً في تعزيز قدرة الفصائل الفلسطينية على الصمود واستثمار لحظة الطوفان. دعم دول محور المقاومة سياسيًا ولوجستيًا وإعلاميًا أتاح للفلسطينيين الاستمرار في فرض المبادرة رغم الضغوط الدولية والحصار. إيران ولبنان واليمن وفصائل المقاومة في المنطقة لعبت أدوارًا مختلفة: من تقديم الخبرة العسكرية والدعم اللوجستي إلى التغطية الإعلامية والتحرك الدبلوماسي في المحافل الدولية.
الدبلوماسية الفلسطينية استغلت الانقسامات داخل التحالفات الغربية وكشفت زيف الرواية الصهيونية الغاصبة أمام العالم، مؤكدة أن القضية الفلسطينية قضية حضارية وعادلة، وليست مجرد نزاع محلي. الإعلام المقاوم عزز هذه الرسالة، فكان أداة لتسليط الضوء على الانتهاكات، وكشف الأكاذيب الصهيونية، وإظهار الصورة الحقيقية للصمود الشعبي.
الوعي الإقليمي والدولي بعد طوفان الأقصى انعكس في إعادة ترتيب مواقف عدد من الدول وفرض تحديات دبلوماسية جديدة على الكيان الصهيوني الغاصب. أصبح واضحًا أن القوة الحقيقية ليست فقط عسكرية، بل تكاملية بين الميدان والدبلوماسية والوعي الشعبي والدعم الإقليمي. محور المقاومة أصبح قادرًا على إعادة رسم موازين القوى على مستوى المنطقة، وإجبار الاحتلال على مواجهة حقيقة فشل سياساته طويلة المدى، وفرض مبادئ جديدة على أي محاولات مستقبلية لفرض الهيمنة الصهيونية.
صعود الوعي المقاوم والمستقبل
بعد عامين من طوفان الأقصى، يظهر بوضوح أن المعاناة والخسائر لم تُضعف محور المقاومة، بل صقلته وأكسبته إدراكًا أعمق لأهمية التخطيط الاستراتيجي والوعي الشعبي والسياسي. سقوط الأسطورة الصهيونية الغاصبة لم يكن نهاية الصراع، بل بداية مرحلة جديدة تعكس قدرة المقاومة على إعادة رسم المعادلات وفرض حضور مؤثر في أي مفاوضات مستقبلية، وخلق أرضية صلبة للصمود الطويل الأمد.
الوعي المقاوم الذي تشكل خلال هذه الفترة يمثل أكبر رصيد للأمة. إنه وعي يعتمد على فهم عميق للعدو، استراتيجية طويلة المدى، التمسك بالثوابت الوطنية، والصبر الاستراتيجي. هذا الوعي يجعل المقاومة مشروعًا شاملًا يجمع بين البعد العسكري والسياسي والشعبي والدبلوماسي، ويؤكد أن أي نجاح مستدام لا يتحقق دون هذا التكامل.
في الذكرى الثانية لطوفان الأقصى، الرسالة واضحة: المعركة مستمرة، لكنها لم تعد مجرد مواجهة بالسلاح، بل صراع على الوعي والمبادرة والشرعية والقدرة على الصمود. محور المقاومة اليوم أكثر صلابة، قادر على مواجهة أي مشروع تهويدي مستقبلي للكيان الصهيوني الغاصب، وحامي للحقوق الوطنية الفلسطينية، مؤكدًا أن صمود الشعب والمقاومة الشاملة هو الطريق الحقيقي نحو الحرية والتحرر، وإعادة صياغة مستقبل الأمة في مواجهة مشاريع الهيمنة والاحتلال.